سوف يَكتب التاريخ يومًا، أنّ مُواطنين في الدول العربية، اختَرعوا في بداية القرن الواحد والعشرين "دِيمُقراطيّة الشارع". الدِّيمقراطية هي وَفْق أصل الكلمة اليوناني "حُكم الشعب" (ديموس= الشعب، وكراسيا= السُّلطة أو الحُكم). وقد ظهر المفهوم خلال القرن السادس قبل الميلاد في اللغة اليونانية، مُعاصرًا لنشوء النظام الجديد للحكم في أثينا ومُدن يونانية أخرى، والذي فتح "مجالس المدينة-الدولة" لمشاركة جميع المواطنين، بدل أن تكون محصورة في الطبقة الأرستقراطية. نَتج من ذلك أحد أهمِّ الأسس الذي تقوم عليه الديمقراطية اليوم، ألَا وهو اعتبار الشعب مَصدرًا للسلطة، وصاحب السيادة في الدولة. نقرأ مثلًا في مقدمة الدستور اللبناني، الفقرة د: "الشعب مَصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية".
لا شرعيّة إذًا في الدول الديمقراطية لأيِّ سلطة، ولا لقراراتها، إلّا إنْ كانت هذه منبثقة من الشعب، وتَحكم بِاسمه. فالهيئات التشريعية -كمَجالس النُّواب- تُصدر القوانين بِاسم الشعب، والسلطةُ التنفيذية المتمثّلة برئيس الدولة والحكومة تأخذ القرارات بِاسم الشعب، حتى إنّ القضاة في السلطة القضائية يُصدرون الأحكام باسم الشعب. بذلك، تُضفي الديمقراطية على "الشعب" نوعًا من "القُدسيّة"، في كَونه ليس المرجعيّة الأخيرة للسلطة وحسْب، بل أساس وجودها وغايتها.
تتجلّى عادةً سيادةُ الشعب ضمْن النُّظم الديمقراطية، عبْر اختياره لمُمثّليه عبْر الانتخابات، والمشاركة في اتِّخاذ القرارت المصيريّة عبر الاستفتاءات، ومحاسبة المسؤولين عبر احترام المُهل الدستورية وتَداوُل السلطة. ففي الأنظمة الديمقراطية المستقرّة، غالبًا ما تتجدّد القيادات في مواقع السلطة، وفقًا لاختيار الشعب، ورغبته في محاسبة بعضهم، أو إعطاء الفرصة لبعضهم الآخر. فتنتهي ولاية رئيس للجمهورية، أو وزير أو نائب، ثم يعُود أو تعود إلى منزله/ها وموقعه/ها، كمُواطن مثل سائر المواطنين، دون أيِّ امتياز عنهم؛ ذلك أن المبدأ يبقى واضحًا، في الفصل بين السيادة التي هي ثابتة وتعُود للشعب حصرًا، والخدمة في السلطة السياسية، التي هي مؤقَّتة وفقًا لمرحلة انتداب الشعب للشخص المَعنيِّ لهذه المهمّة. فبانتهاء المهمّة تنتهي كلُّ الصفات المرتبطة بالسلطة لدى هذا الشخص، ويعُود إلى حياته المدنية مثل سائر المواطنين.
هذا ما يَحدث في الأنظمة الديمقراطية الحقيقية؛ أمّا في غالبية الدول العربية، فلم تستطع التجربة الديمقراطية النادرة، أو الحديثة العهد، أن تتحقّق وَفْق هذا النمط، بل غالبًا ما استَغلّ القادة وصولهم إلى السلطة بالسُّبل الديمقراطية أو شبه الديمقراطية، ليُحوّلوا المؤسّسات العامة والقوانين والدساتير إلى أدوات، لبقائهم في السلطة، واستغلالها لمنافعهم الخاصة. فغياب تَداوُل السلطة ومحاسبة المسؤولين انتخابيًّا -إن كان بسبب تعطيل الانتخابات أو تعطيل مفاعيلها-، أدّى إلى ضرب المبادئ الرئيسة للديمقراطية، التي تَعدّ الشعب مَصدر السلطة وصاحب السيادة.
واجَه المواطنون في عدد كبير من الدول العربية هذا الواقع السياسي المنحرف، عبْر ابتداع نمط جديد من التعبير الديمقراطي، أسْمَيتُه "ديمقراطيّة الشارع". تختلف "ديمقراطيات الشارع" عن الانقلابات العسكرية أو عن الثورات الجماهيرية؛ إذ في كِلْتَا الحالتَين الأخيرتين، يكون الهدف أخذ السلطة. وبعد الوصول إلى السلطة، يجري تجيير السيادة من الشعب، إمّا إلى القيادة العسكرية وأحكامها العُرفيّة بِاسم ردع خطر دائم، أو إلى قيادات الثورة وإيديولوجيّتها التي تُحوّل الشعب أداة لها. لكن، نجحَت "ديمقراطيات الشارع" في عدد من الدول العربية، في المحافظة على منطق الديمقراطية ومبادئها، وإن فشلت أحيانًا في ترجمة ذلك، عبْر انبثاق سلطة جديدة تُمثّل تطلّعاتها.
لقد نزلَت الشعوب إلى الشارع؛ ليس لأخذ السلطة واستردادها من مغتصبها، بل لاستعادة السيادة أوّلًا، وجعْلِها حيث يجب أن تكون، أيْ لدى الشعب. لذلك، أرى لِعَدد من هذه الاحتجاحات الشعبيّة، بُعدًا قيميًّا وفلسفيًّا، يُمْكن أن يؤسِّس لثقافة جديدة لدى المواطنين ووعيهم العامّ لدورهم، أكثر منه صراعًا على السلطة، التي هي بطبيعتها مرحليّة وعابرة. ولهذا السبب، غالبًا ما نجد هذه الحَرَاكات الشعبيّة بدون قيادةٍ مركزية تَقُودها، بل بدون رغبة مشترَكة تُوَحِّدها في تقويم الواقع واستعادة المبادرة.
لكنَّ نقطة القوّة هذه، ترتبط بما يُعدّ نقطة الضعف لدى "ديمقراطيات الشارع"، ألَا وهو استغلالها مِمَّن يبحثون عن السلطة، ولا يأبهون بالسيادة. فقد تُجيَّر هذه الحَراكات ونجاحها في سحب الشرعية من السلطة الحاكمة، لاستبدال هذه السلطة بأخرى، لا تُعبّر هي أيضًا عن طموحها؛ وذلك لأنّ "ديمقراطيّة الشارع"، تفتقد بالإجمال أجنداتٍ سياسيّةً، وبرامجَ واضحة، وقياداتٍ مركزيّةً تُمثّل جمهورها. فهي قد تستعيد السيادة بِيَد وتخسرها بأخرى، إلّا إنْ نجحَت سريعًا في إفراز برامج وقيادات تُمثّلها، ولم يَسبقها راغب في السلطة إلى تجييرها له، أو إلى تحويلها إلى حرب أهليّة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.