تعيش الأُسَر التُّونسيَّة هذه الأسابيع، على إيقاع العَودة المدرسيَّة لأبنائهم، ويخيِّم على الجميع تَخوُّفات وتَوجُّسات على مستقبل أولادهم، في ظلِّ التَّوتُّرات الَّتي عرفها قِطاع التَّربية والتَّعليم في السَّنة الماضية، مِن جرَّاء الإضرابات، وضغْط الأزمات الهيكليَّة للمدرسة التُّونسيَّة عمومًا. وتُقرُّ التَّقارير الرَّسميَّة بالأزمة الشَّاملة التي بلغَتْها المدرسة العموميَّة، سواءٌ على مستوى البُنْية التَّحتيَّة، أو على المستوى المعرفيِّ والرَّمزيِّ.
المدرسة العموميَّة لم تعُد برأي كثيرين ضامنة لتَكافُؤ الفرص، ومِن ثمَّ لم تعُد تلعب دور المُساعد الاجتماعي؛ ما قلَّص من مشروعيَّتها في نظرهم، ومن مصداقيَّتها عند مُريديها، إذ السِّياسات التَّربويَّة العامَّة لم تعُد قادرة على مواكبة التَّحوُّلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة. فما يشاهدونه اليوم، هو تَخلِّي الدَّولة -برأيهم- عن مسؤوليَّاتها تجاه تطوير المدرسة العموميَّة ودعمها، بحجَّة عدم القدرة على تحمُّل نفقاتها، وأعباء الطَّلب المتزايد على الخدمات التَّعليميَّة؛ ما دفَع باتِّجاه خصْخَصة التَّعليم وفتح باب الاستثمارات التِّجاريّة والسِّلعيَّة للمعرفة.
اليوم، هناك اقرار بضرورة توافُر المقاربة الشاملة لإصلاح المنظومة التربوية وعَقْلنتها، وأيضًا تركيزٌ على محدوديَّة الرُّؤى التِّقْنِيَّة والتَّجزيئيَّة لقضايا التَّربية والتَّعليم في عالمنا. ويتَّفق كثير من الباحثين/ات في مجال علوم التَّربية والأولياء وأصحاب المؤسَّسات، على أنَّ القصد بأزمة المدرسة يتمحور في ثلاث نقاط:
- عدم التَّملُّك الأدنى للكفاية الأساسيَّة في القراءة والكتابة والحساب لدى المتعلمِّين/ات، ومحدوديَّة قدرتهم/هنَّ على التَّأقلم مع المتغيِّرات.
- ارتفاع نسبة الإهدار والانقطاع المدرسيِّ، حيث ارتفعَت نسبة التَّسرُّب إلى 100000 تلميذ(ة) في السَّنة.
- عجْز المدرسة عن تمرير القيم، وبناء المناعة الرُّوحيَّة الضَّروريَّة للنمو السَّليم.
في هذا السِّياق، يتَّفق هؤلاء على أنَّ إصلاح التَّعليم مهمَّة تاريخيَّة إجباريَّة، لتكوين مواطنين/ات قادرين/ات على مواجهة تحدِّيَات هذه الحقبة التاريخية ورهاناتها وأخطارها. فاليوم، كلُّ حدثٍ عالميٍّ يؤثِّر سلبًا أو إيجابًا فيما هو مَحلِّيٌّ، وكلُّ حدثٍ مَحلِّيٍّ يجد صداه على مستوى العالم. فعالمنا يسير موضوعيًّا بإيقاع متسارع، نحو التَّوحُّد والتَّشابك والتَّعقيد؛ ما يتطلَّب نوعيَّة جديدة من التَّكوين والتَّعليم.
في هذا الصَّدد، يؤكِّد لنا الفيلسوف إدغار موران ضرورة تخصيص 10% من الوقت الدِّراسيِّ، لفتح بعضِ الاختصاصات على بعض، ولدراسة العلاقات بين العلوم الصَّحيحة والاجتماعيَّة والإنسانيَّة، وللحفر في القضايا المتشعِّبة الَّتي تطرح نفسها على شبابنا. هذا التَّكوين الشُّموليُّ والمتعدِّد الاختصاصات، يمكِّن المتعلِّم(ة) من إدراك الكلِّ لفهم الأجزاء. وهذا هو التَّعليم المنشود الَّذي سيرفع الحواجز بين المعارف والموادِّ، وسيؤسِّس رؤًى مركَّبة للواقع، وهو الذي يبني الفكر والحسَّ النَّقديَّ، ويصنع تعليمًا عميقًا ومتماسكًا، نافعًا وغير نفْعيٍّ.
من الضَّروريِّ أيضًا، مقاربة المعرفة كوظيفة وُجوديَّة، تساعدنا على إعطاء معنًى للحياة لدى فئات واسعة من الشَّباب، الَّذي يعيش اليوم الفراغ وغياب المعنى. ويتجلَّى هذا الفراغ في انتشار العنف المادِّيِّ والرَّمزيِّ، وفي تفشِّي ظاهرة تعاطي المخدِّرات في مدارسنا. وتعكس هذه الظَّواهر ارتباك القيم والمعالم الهادية لدى أطفالنا، وهشاشة مناعتهم الرُّوحيَّة.
المدرسة اليوم، تُعيد إنتاج الثَّقافة السَّائدة والمُهيمِنة، الَّتي تُراهن أساسًا على التَّقدُّم المادِّيِّ والرَّفاهِيِّ الكمِّيِّ غير المحدود، وتختزل الحياة الإنسانيَّة في بُعدَين وضيعَين: إنتاجٍ همجيٍّ، واستهلاك حيوانيٍّ. هذه المدرسة تعتمد أساسًا على التَّنافس الوحشيِّ، وعلى النَّجاح الفرديِّ، وتستبعد قيم التَّعاون والتآخي والغَيريَّة السَّمْحَة. وهو ما نشاهد نتائجه الكارثيَّة على مستوى الحياة الفرديَّة والجماعيَّة.
المدرسة مطالَبة اليوم بتمرير القيم الأخلاقيَّة الخالدة، أيِ المشترَك الإنسانيّ والثَّوابت القيميَّة الَّتي نجدها في كثير من الدِّيانات والمعتقدات، وذلك حسب الخصوصيَّات المحلِّيَّة لكلِّ بلد. وطبعًا، سيقع صياغة هذه المبادئ النَّبيلة في مناهج ودروسٍ، مثل: التَّربية على السَّلام واللَّاعنف، ومقارَنة الأديان، وحصص التَّدريب على التَّعاطف والعيش المشترَك... إلخ. وستمكِّننا هذه "الثَّورة البيداغوجيَّة"، من تربية أبنائنا على غير شاكلتنا -على حدِّ تعبير الإمام عليِّ بن أبي طالب (ر)-.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.