يمكن القول بأنَّ تَسْمِيات: "القرآنيون" و"أهل القرآن" أو "التيار القرآني"، هي جميعها تدل على مضمون واحد، مَفادُه الاقتصار على القرآن كمصدر شامل لكل ما يحتاج إليه المسلم في دينه. ومن أبرز الشخصيات الإسلامية التي تتصل بهذا التيار، يَبرز أمامنا أحمد خان، وغلام أحمد برويز في الهند، والشيخ عبد الله جكرالوي في باكستان الذي أسَّس جماعة (أهل الذكر والقرآن)، والدكتور أحمد صبحي منصور الذي كان مدرِّسًا في جامعة الأزهر في الفترة ما بين عامَي (1977- 1987)، وطُرد منها بسبب آرائه، التي رأى فيها خصومُه خطرًا على الإسلام!
ليس الرجوع إلى النص المؤسِّس والموحِّد دون غيره ظاهرةً خاصة بالمسلمين، فقد سبق لأهل الكتاب أن مرُّوا بتجارب مماثلة. ففي السياق اليهودي اعتقد كثير من اليهود وُجود شريعة ثانية شفهية (المشنا) مُوحًى بها من الله، إلى جانب التوراة المكتوبة التي أُنزلت على موسى؛ ونتج من ذلك تَضخُّمُ التراث الشفهي وطغيانه على الشريعة المكتوبة. ولعل النبي إرميا هو أول من أشار إلى وجود صراع مبكر، بين أتباع النص الأساسي والنصوص المضافة، عندما قال: "كيف تقولون نحنُ حُكَماء وشريعةُ الرّبِّ معنا؟ حقًّا إنَّه إلى الكَذب حوَّلَها قلمُ الكَتبةِ الكاذبُ" (إرميا 8: 8). وقد رفضَت بعضُ الفرق اليهوديةِ الشريعةَ الشفهية، كما فَعَل السامريُّون والصَّدوقيون والقرَّاؤون واليهودية المحافظة، الذين لم يؤمنوا بالشريعة الشفهية.
أمَّا في السياق المسيحي، فقد أسهم اعتقادُ قداسة التقاليد الكنسيَّة وطغيانها على الكتاب المقدس، في ظهور الحركة الإصلاحية التي قام بها مارتن لوثر، وكان المبدأ الأول من مبادئها الإصلاحية هو "Sola Scriptura"، وهي عبارة لاتينية تعني "الكتاب المقدس وحده".
وأمَّا في السياق الإسلامي، فقد أدَّى تنامي المَرويَّات الحديثية واستحواذها على الفكر الديني، إلى جعل السُّنّة حاكمة على القرآن ومُقيِّدة لنصوصه وأحكامه. فقد بدأ اعتقادُ قداسة السُّنة النبوية في سياق التبليغ عن الله، ثم توسَّع مفهومها ليشمل كل قول أو فعل أو تقرير يقوم به النبي، ثم تطوَّر ليشمل أقوال الخلفاء المهديين (الراشدين) وأفعالهم، ثم توسَّع بعد ذلك ليَدخل فيه أقوالُ الصحابة والتابعين وغيرهم ممن اصطُلِح على تسميتهم بالسلف الصالح. وهذا كله في سياق الإسلام السُّنّي؛ أمَّا في سياق الإسلام الشيعي، فقد توسَّع مفهوم السُّنّة ليشمل كل ما يقوله الأئمة المعصومون من قول أو فعل أو تقرير. وهذا يعنى أن أساس المشكلة يكمن في مفهوم السُّنّة، وتوسُّعِ معناها عند السنة والشيعة على السواء.
ومما يؤكد تشابُه أسباب هذه المشكلة بين أتباع الكُتب المُوحَى بها، ما رُوِي "أن عمر بن الخطاب بلَغه أنه قد ظهر في أيدي الناس كُتب، فاستنكرها وكرهها، وقال: أيها الناس، إنه قد بلَغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبُّها إليَّ أعدلُها وأقومُها، فلا يُبقِينَّ أحدٌ عنده كتابًا إلَّا أتاني به، فأرى فيه رأيي. قال: فظنُّوا أنه يريد أن يَنظر فيها، ويقوِّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتَوْهُ بكتبهم، فأحرقها بالنار، ثم قال: مَثْناة كمثناة أهل الكتاب" (الطبقات الكبرى لابن سعد).
إن التحول من "أَحَدِيَّة" الوحي الإلهي إلى "مَثْنَوِيّة" التراث البشري، واعتبار هذا الثاني موازيًا في القداسة للأول، يمثِّلان ظاهرة مشتركة بين التمثلات الدينية الإبراهيمية الثلاثة، وهي تشي بعدم اكتمال النص المؤسس. ولعل تناهي النصوص وعدم تناهي الأحداث والمستجدات، قد ألجَآ الفكر الديني إلى إنتاج بدائل تشريعية، يمكن لها أن تُسهم في مواجهة الوقائع والمتغيرات. فالبحث عن مصادر تشريعية إلى جانب النص الإلهي، كان يهدف بالأساس إلى تلبية المتطلبات العملية للحياة الإنسانية.
ولكن، مع الأهمية الوظيفية للمصادر "المَثْنَوِيّة" على المستويات الدينية والاجتماعية، إلَّا أنها أنتجت نمطًا من التدين التراثي، الذي يختلف بطريقة أو بأخرى عن ذلك التدين الأساسي .
ومع الأخذ بالاعتبار لِلجهود الكبيرة التي بذلها علماء الحديث، في تصفية الحديث مما لحق به من إسرائيليات ومَرويَّات موضوعة، إلَّا أن الدراسة النقدية لِلمُتون لم تستوعب الاكتشافات الأثرية والترجمات العلمية للنصوص الموازية، التي كانت حاضرة في الثقافة العربية إبَّان المرحلة الأولى لظهور الإسلام وتدوين المَرويّات الحديثية، وما ترجمةُ "المشنا" والتلمود البابلي سوى مثال بسيط على ذلك.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.