منذ أسبوعين تَقدَّمت مجموعة من المثقفين والحقوقيين إلى وزير الثقافة في المغرب، بعريضة تحمل عنوان "لا للتطرف والكراهية"، يطالبون فيها بمنع محاضرَتَين لداعية ذائعِ الصِّيت في العاصمة الرباط. وعبَّر الموقِّعون عن رفضهم لفتح مؤسسات الدولة والمجال العامّ، أمام شخص "عُرف عنه التحريض على التطرف والكراهية ضد أتباع الأديان الأخرى".
لم يكن لي أن أتَّخذ موقفًا من هذا الحدث، دونما التزام قواعد الموضوعية العلمية. لذا، حاولتُ الاطِّلاع على بعض المواقف الدينية للداعية. فكان منها: الموقف السلبي من عمل المرأة الذي –برأيه- يؤدِّي إلى شيطنتها، والموقف من مشاركة المسلم غير المسلمين، خصوصًا المسيحيين، في أعيادهم، أو تهنئتهم بها، حيث يرى أنها تَهدم مبدأ السِّلم والوفاق المدني، وإمكانية كلِّ حوار بين الأديان. ثم إن إعجابه بـ "أدولف هتلر"، ومَدْحه له لأنه اقتبس مقدمة خُطبة من بعض الآيات القرآنية، قد يعني تبريرًا لفظاعات الحرب والديكتاتورية!
ثَمَّة اختلاف جذري بين هذه التصورات، وما أعتقد أنه تَصوُّر إسلامي معتدل، ومتصالح مع مبادئ قبول الاختلاف والتعددية واحترام حقوق الإنسان. يَجري تبرير مثل هذه المواقف بأنها عودة لإسلام السَّلَف ولأصول الدين نفسه. لكني أعتقد أنها ليست في حقيقتها إلَّا تشويهًا عميقًا لروح الإسلام، وأنها في العمق لاأُصُولية-إسلامية، في قطيعة تامة مع النزعة الإنسانية في الإسلام.
من الغريب أن الكثير من الإسلاميين الذين أدانوا هذه العريضة، كانوا قد تَقدَّموا بطلب منع أنشطة فكرية لمجموعة من المثقفين العلمانيين، أو حتى الدعاة الذين يرفضون القراءة السلفية. لكن قناعاتي الشخصية كما تناقضات الإسلاميين الفكرية والأخلاقية، لم تمنعني من طرح السؤال: هل يشكِّل المنع سلوكًا حضاريًّا؟
أعتقد أن ثقافة المنع والإقصاء من الفضاء العامّ -مَهْما كان مصدرها- تشير إلى نزعة "أصولية" عميقة، بل وتكشف في آخر الأمر أن الأصولية يمكن أن تكون دينية أو لادينية، وكذلك تكشف عن التشابه العميق بين الأصوليات، التي تعتمد على فكرة الأصول أو المبادئ الأساسية للعقيدة الدينية أو اللادينية، وامتلاك الحقيقة المطلقة. وبذلك، تُخلق فكرة استحالة ولوج العقيدة المخالفة في المجال العامّ، لأن ذلك سيكون جزءًا من مؤامرة تُحاك ضد العقيدة القويمة. وقد تُعيد الأصولية اللادينية أحيانًا إنتاج نفس أمراض الأصوليات الدينية، من حيث إقصاء المخالف، أو فرض نظام شمولي على المجتمع.
لذا، فإني أرى أن قبول الآخر في الفضاء العامّ، يشكِّل الطريق الأمثل لعلاج الأصوليات، من أجل بناء أخلاقيات التفاهم والحوار. فيَسمح الاعتراف المزدوج (أي للمتديِّنين تجاه غير المتدينين، ولغير المتدينين تجاه المتدينين)، ببناء الاحترام والاعتراف المتبادل، من خلال إقرار حقِّ الأفراد في اعتناق الأفكار، حتى تلك التي تبدو لنا متصادمة مع جوهر الدين نفسه، مقابل إلزامهم السِّلميَّةَ في الحوار، وقبول وجود الآخر في المجال العامّ. هنا يتحقق المعنى الإيجابي للتسامح، مع وجود الدلالة السلبية التي تقترن بكلمة التسامح. وذلك بمعنى أننا "ملزَمون" على الأقلِّ قبولَ وجود فكر أو عقيدة ما، رغم يقيننا بخطئها؛ ما يعني الاعتراف بتعدد العقائد والجماعات التي تتبنَّاها.
إن تدبيرًا مختلفًا للمجال العامّ، يتميز بتَجاوُر الأصوليات المختلفة، قد يعني إمكانية تغيير بُنْية هذه الأصوليات نفسها، وإعادة تأويل الأفكار الدينية أو اللادينية، كي لا تكُون مصدر صراع. ويصبح الاستعمال العمومي للعقل طريقًا نحو قيام الأصوليات بمراجعات فكرية، وتَحوُّلها إلى مشروع مفتوح. فعلاقة المسلم بغير المسلم، أو دور المرأة ووضعها في المجتمع، ليسَا حقيقَتَين مطلقتَين ونهائيَّتَين في الأصول. لذا، يجب أن نتساءل دومًا ليس حول معنى نصوص القرآن والسنة فحسب، بل حول ما تَعنيه بالنسبة إلينا وفي سياقاتنا. وأيضًا يجب ألّا يعتقد العلماني أن مسار الدين قد تَحدَّد نهائيًّا، أو أنه يوجد نمط واحد من الحداثة.
إن تغيير مجتمعاتنا بالحوار والاعتراف، هو ما يمكِّننا من تغيير أنفسنا وأفكارنا بعمق. فالفكر الديني نتاج سياقه، وأفكارٌ مثل التي يُعبِّر عنها الداعية، هي انعكاس لسيكولوجية الإنسان المقهور، ولمجتمعات مغلَقة ومشوَّهة أخلاقيًّا. لذا، نَسي الداعية أن كرامة المرأة العاملة، كما الإنسان المسيحي، أعظم عند الله من كلِّ الأصول الفقهية. يقول الله تعالى {ولا تستوي الحسنةُ ولا السَّيّئةُ ادفَعْ بالَّتي هي أحسنُ فإذَا الَّذي بينكَ وَبينهُ عداوةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميمٌ} [فُصِّلَت: 34].
قد تتحول الأصوليات إلى أبنية قاسية ومتكلِّسة، ويبقى حُبَّ الآخر واحترامه الذي أقول إنه المبدأ الأصيل والمتين للدين نفسه. والله أعلم
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.