بعد تولِّي حليمة يعقوب رئاسة سنغافورة، عاد الجدل داخل بعض الأوساط الدينية حول إمكانية تولِّي المرأة الولاية العامة. وفي سياق هذا الجدل يرفض قطاع كبير من أتباع التيارات الدينية تولي المرأة الولاية العامة بدعوى “نقص عقلها، وضعف فكرها، وقوة عاطفتها”، وهي أمور محل نقاش ولا يمكن قبولها وفق المنظور العلمي الموضوعي، خاصة أمام تفوق كثير من النساء في جميع المجالات العلمية والسياسية والاجتماعية.
يستند الرافضون لتولي المرأة الولاية العامة إلى الحديث الذي برواية الصحابي أَبِي بَكْرَةَ، والذي يقول فيه :"لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الْجَمَلِ بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ. قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً" (رواه البخاري).
إن الاعتماد على رواية واحدة رواها صحابي واحد في مسألة بهذه الأهمية هو أمر محل تساؤل واستغراب، خاصة وأن هذه الرواية قد خالفت قناعة عامة بين كثير من مئات الصحابة الذين لحقوا بعائشة رضي الله عنها يوم الجمل، والأمر المستغرب أن عائشة وهي من أكثر الناس علمًا واهتمامًا بالشؤون المتعلقة بالمرأة المسلمة لم تكن على علم بهذه الرواية. ومما يؤكد ظنِّيَّة هذا الدليل وعدم قطعيَّته أن أبا بكرة لم يجد في القرآن الكريم شيئًا يستدل به على عدم جواز تولِّي المرأة الشأن العام، ولم يجد في السنة النبوية غير هذه الرواية التي تذكُرها بعد أن كاد يلحق بأصحاب الجمل.
والأهم من ذلك أن الرواية قد جاءت في سياق الحديث عن بلاد فارس التي لم يكن الإسلام يومها قد انتشر فيها، وهذا يؤكد أن كلام النبي لم يكن أمرًا شرعيًّا وإنما كان فهمًا سياسيًّا لواقع الإمبراطورية الفارسية وما سوف تنتهي إليه.
ليس كل ما يقوله النبي هو من باب التشريع، ومن هنا يمكن القول إن هذه الرواية تمثل فهم النبي كسياسي يستوعب عوامل الانحطاط التي كانت تعصف بالإمبراطورية الفارسية، قبل عقود طويلة من تولي "بوران" الحكم بعد مقتل أخيها "جوانشير".
لم تسقط الإمبراطورية الفارسية لأن امرأة حكمت البلاد، ويؤكد ذلك ما جاء في الوثائق التاريخية كما تذكر "فارسنامة" أنّ بوران "كانت عاقلة جدًّا وعادلة ذات سيرة حسنة، وحين أصبحت ملكة أعفت الناس من دفع الخراج وبسطت العدل فيهم". كما أن نهاية الإمبراطورية الفارسية لم تكن في عهد "بوران" وإنما كانت في عهد "رجل" وهو يزدجرد الثالث (631-651م).
إن الأخذ بالقرآن هو الأساس في بناء النظرة الإسلامية تجاه ولاية المرأة، وهنا نجد القرآن يؤكد نجاح ملكة سبأ في قيادة شعبها نحو الفلاح والخير، ويذكر أنها كانت تمارس الشورى خلافًا للاستبداد الذي كان يمارسه فرعون "الرجل". فكيف يمكن الأخذ بعموم رواية أبي بكرة وهي تعارض "فلاح" قوم ملكة سبأ الذين تولت أمرهم امرأة؟!
يؤكد التاريخ أن القيادات النسوية يمكن أن تفلح عندما ترتبط بنظام سياسي واجتماعي قوي وناجح. وأمام كثير من القيادات الذكورية المستبدة التي جلبت الظلم والدمار، يمكن أن نستعرض أسماء كثير من النساء اللاتي تَولّين الحكم في تاريخنا المعاصر أمثال: أنديرا غاندي رئيسة وزراء الهند، الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا، كوليندا غرابار كيتاروفيتش رئيسة كرواتيا، مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا، أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية، كريستينا فرنانديز رئيسة الأرجنتين، ديلما روسيف رئيسة البرازيل، ميشيل باشيليت رئيسة تشيلي، تساي إينج وين رئيسة تايوان، خالدة ضياء رئيسة حكومة بنغلادش السابقة، حسينة واجد رئيسة حكومة بنغلادش الحاليّة، بِينظير بوتو رئيسة وزراء الباكستان، وغيرهن كثير.
لم يعد التغني بما قام به الإسلام تجاه المرأة يجدي نفعًا إن لم يجتهد العقل المسلم في العمل على تمكين المرأة من القيادة والعمل العام، خاصة وأنه قد طرأ تطور كبير على مفهوم الولاية العامة في عصرنا الحديث، حيث انتقلت من مفهوم "السلطة الفردية" التي تستمد شرعيتها من السماء، إلى "السلطة المؤسسية" التي تحدد وتنتخب الحاكم وتُعِينه على القيام بمهامه الموكولة إليه، بناء على عمل مؤسسات تستمد شرعيتها من الأمة.
من غير المقبول أن يكون منع تولي المرأة الولاية العامة بمنزلة عقيدة دينية مطلقة غير قابلة للمراجعة والنقاش، خاصة وأن هذا المنع من شأنه أن يعطل الطاقات، ويظلم مليارات البشر، ويجعل صورة الإسلام الذي يُعلي من قيمتَي العدل والاجتهاد مقترنة بالتمييز والجمود.
إن مهمة خلافة الأرض وإعمارها هي مهمة قد هيأ الله لها الإنسان ليقوم بها على أفضل وجه، وذلك من خلال مقوماته الإنسانية وقدراته التي أنعم الله بها عليه، مهما كان جنسه أو عرقه أو لونه.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.