تابعتُ بكلّ إعجاب قصّة الشابّة السوريّة، التي أتت إلى الأردن معَ سبعة إخوة وأخوات. فأكملَتْ دراستها الثانويّة (القِسم العِلميّ) وحدها في المنزل، وحصلَت على معدّل 95%، ثمّ أكملَت دراسة الصحافة والإعلام في جامعة اليرموك، وتخرَّجتْ بمعدّل 96% (الأولى على الكلّيّة)، في الوقت الذي كانت تَعمل فيه في التدريس، وتُنْفق على إخوتها. قصّة تلك الفتاة اليتيمة، يجب أنْ تُدرَّس كنموذج من الاجتهاد والإصرار القادر على كسر الحواجز. أيضًا يجب أنْ تُعرَض كنموذج صارخٍ، من مقدرة النساء على تَحمُّل عدّة مسؤوليّات في آنٍ واحد، حيث يُعْمِلْن العقل والعاطفة معًا؛ للوصول إلى النجاح الشخصيّ والعائليّ والمجتمعيّ، في حالات كثيرة نراها أمامَنا كلّ يوم.
المرأة العربيّة أثبتَتْ تَفوُّقها عندما أُعطيَت الفرص والخيارات، حتّى قبْل أنْ يُنصفها المجتمع والقوانين. وليس سرًّا تَفوُّق الإناث على الذكور في امتحانات البكالوريا في أكثر مِن بلد عربيّ، بحسب صحيفة الدستور الأردنية، حيث أسْقَطْن نظريّة تَفوُّق القدرات العقليّة للذكور -كما كان يُشاع-؛ ما يَطرح أسئلة حول عدم إنصاف المُفكّرين على مدى التاريخ لعقل المرأة، إذ إنّ أغلب المُفكّرين لم يتعاملوا مع المرأة ككائن مُساوٍ للرجل. ولعلّ التفسير المنطقيَّ، هو أنّ المرأة التي كانوا يرَوْنها، إنما هي نِتاج لتربية قصْقَصة الأجنحة التي استمرّت عبر العصور، والتي بدأت بالتراجع منذ عقود قليلة ماضية، ومع بدء الثورة النِّسْوِيّة. ولعلّ أفضل ما قيل في شأنِ المرأة، ما ذكرَتْه سيمون دي بوفوار: "لا تُولَد المرأةُ امرأةً، بل تُصبح كذلك".
حتّى عقودٍ فائتة، لم تُظهر المرأة إمكاناتها الحقيقيّة إلا فيما ندر. فكيف تكُون المرأة حكيمة وهي ممنوعة من السفر مثلًا، الذي هو أحَدُ روافد المعرفة والحكمة؟! وكيف تكُون عالمة وهي كانت ممنوعة من التعليم سنواتٍ طويلة؟! وكيف تكُون فنّانة، والقوانين حتّى عقود قريبة كانت تَمنعها من مُمارسة الفنّ، حتى إنّ فنّانات كثيرات كُنَّ يَنشرْنَ فَنَّهنَّ بأسماء مستعارة، أو بأسماء أزواجهنّ؟!
بدأ قصْقَصة أجنحة الفتاة بعد أنْ تأتيَ للحياة، بعدم إعطائها نفس الفرص التعليميّة والتربويّة. وفي حين تجري تربية الذَّكر على الشجاعة والإقدام على مواجهة مَصاعب الحياة، وتشجيعه على السفر، واقتحام المخاطر، والتَّعرُّض للتجارِب التي تَصقل شخصيّته؛ تُربَّى الفتاة على الطاعة العمياء، والخوف من المجهول، والاعتماد على غيرها. وتستمرّ قصْقَصة أجنحة الفتاة حتّى بعد أنْ تتعدّى سنَّ الطفولة، حيث يُمارَس عليها نوعٌ مِن العنف الاقتصاديّ، لِحرمانِها أيَّ استقلاليّةٍ مادّيّة قد تَضمن لها نوعًا من استقلاليّة القرار، كمنعِها مِن العمل، وحرمانها المناصَفةَ في الإرث -الذي هو أصلًا نِصف ما يَرِثُه الذَّكر-، وذلك لأسباب تتعلّق بالقبيلة، وعدم السَّماح بخروج الأملاك من عباءة العائلة.
كُلُّ هذا يجعل من المرأة العِشرينيّة أو الثَّلاثينيّة أو حتّى السِّتّينيّة، لا تستطيع أنْ تحصل على قُوت يومها بنفسها. ولعلَّ أسوأ أنواع العنف الاقتصاديّ زواجُ القاصرات، وهو تزويج الطفلات تحت السّنّ القانونيّ للزواج، بِحجَّة الستر عليهنّ. وهو في الحقيقة حرمانُهنَّ كلَّ أسلحتهنَّ في مواجهة الحياة وتقلّباتها، ورميُهنَّ في مَهبّ ريح الظروف والمتغيّرات. فقد تجد الفتاة نفسها أُمًّا بعد سنوات لعدد كبير من الأطفال، أو مُطلّقةً، أو أرملةً، بلا مأوى ولا مال. فينتهي بها الطريق إلى التسوُّل، أو إلى سلك طُرق أبعد ما تَكُون عن الستر، الذي هو -حسب ما نسمع من حجج واهية- سببُ زواجها.
لهذا، ولكلّ ما ذُكر من أسباب، فالمرأة التي تتفوّق في هذه المجتمعات، إمّا لأنّها حظِيَت بعائلة داعمة جدًّا، تُؤْمِن بالمساواة بين الجنسين في التعليم والفرص والتربية، وإمّا لأنّها امتلكَت من القوة والإرادة ما يُشبه المعجزة، حيث قفزَت فوق كلِّ تلك الحواجز أو حطّمَتْها - هي امرأةٌ سبَحَت عكس تيَّار المجتمع الجارف، ووقفَت أمامه، وتحمّلت ما لا يُحتمل.
نحن في زمن تعاظمت فيه التحديات، وآخِرُها الأمراض التي تفشَّت أخيرًا، والتي تحتاج إلى كلِّ العقول والإمكانات للتصدِّي لها. أمَّا تعطيل الفرد حسب جنسه، بالتضييق عليه وحبس إمكاناته، فجريمةٌ لا تُغتفر. ولنا في عالِمات الأوبئة والأمراض، اللَّوَاتي يَصِلْنَ الليل بالنهار لاكتشاف العقاقير واللقاحات في العالم، عبرةٌ وعِظَة.
يُخلق الإنسان بروح حرّة، رجلًا كان أو امرأة. هذه الروح تَمنح صاحبَها أجنحةً لا يَحدُّها إلّا السماء. فإنْ حُبسَت هذه الروح وجرى قصْقَصة أجنحتها، فإنّ صاحبها يتحوّل إلى كائن تعِسٍ محدود الرغبات. وأسوَأُ درجة من درجات قمع المرأة، أنْ تُقنَع بأنّها خُلقت لِتُقدِّس قيودها، وتَقْبل تحجيم عقلها، وقصْقَصة أجنحتها. فلو أراد الله ألّا تَستخدم المرأةُ عقلها، لَمَا خلقها بعقلٍ مِن الأساس، ولو أراد أنْ يجعلها حبيسةً، لَما خلَقَها رُوحًا حُرّةً تَهوى الطيران.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.