نجح المتطرِّفون خلال العقود الأخيرة، في زرع ثقافة "المؤامرة" في عقول الأفراد، خصوصًا فيما يتعلّق بقضايا المرأة. ففي نظرهم المرأة مستهدَفة، وهناك تخطيط وتدبير دُوَليّ للقضاء على القيم الدينيّة، من خلال المرأة.
الحركات النِّسْوِيّة، ليست -برأيهم- سوى أصابع لهذه المؤامرة. وكلّ امرأة تَرفع صَوتها أمام القمع، فهي إمّا مُغرَّر بها، أو مشارِكة في الجريمة، أو بائعة لِقِيمها مقابل المال -كما يقولون-، في حين الحقيقة في وادٍ، وما يدّعون في وادٍ آخر.
قبْل أسابيع، صوَّتَ مجلس النوّاب الأردنيّ بالرفض، على مَطالب الحَرَاك النِّسْوِيّ، ومؤسّسات المجتمع المدنيّ التي تُعنى بقضايا المرأة، وعدد كبير من الناشطين والناشطات والحقوقيّين والحقوقيّات. تلك المَطالب تَمثَّلَت برفع سنِّ الزواج لتقليل أعداد المُتزوّجات القاصرات، وبشمول أبناء المرأة المتوَفَّاة بالوصية الواجبة، التي تُعطي أبناءَها الحقَّ في ميراث جدّهم، كما حقُّ أبناء الابن المتوَفَّى. ومع أنّ الأمر بِرُمّته اجتهاد لا وجود له في النصوص الدينيّة، إلّا أنّ الأصوات الرافضة لمُطالَبات المجتمع المدنيّ قد ارتفعت. وفي المقابل، تَعمّدَت جهات معيّنة شَيْطنة هذه المؤسّسات، واتّهامها بتحقيق أجندات خارجيّة، وقاموا بالاستدلال على اتّهاماتهم، ببيان تَلقّي تلك المؤسّسات تمويلَها مِن الخارج.
حمَلات التجييش والشَّيطنة آتَت أُكُلَها في التصويت؛ حيث صوَّتَ المجلس ضد المرأة وقضاياها، بل أعلنَ بعض النوّاب انتصارهم على الأجندات والأصابع، وخرجوا مِن الجلسة كالمنتصر من معركة وُجوديّة. وهُمْ في الواقع لم ينتصروا إلّا على قيم الإنسانيّة والعدالة، ولم يَهزِموا سوى الصغيرات، اللواتي خرجْنَ بفعل قرارهم مِن مقاعد المدرسة إلى غُرف الطَّلْق والولادة، ولم يتغلَّبوا إلَّا على أبناء المتوَفَّيات الذين حُرموا حصة أمهاتهم من ميراث الجد، بسبب نظرة ذكورية، لا ترى للمرأة دورًا في حياة أبنائها، ولا ترى لها دورًا فاعلًا في حياة والدها أيضًا.
لماذا تجري شَيْطنة مؤسّسات المجتمع المدنيّ، التي تُطالِب بحقوق إضافيّة للمرأة، في بلدٍ، الكثيرُ من المشاريع الثقافية على أرضه، قائمةٌ على المِنح المقدَّمة مِن الخارج، سواءٌ مِنحًا لتطوير التعليم كانت، أو للصحّة، أو للعناية بالطفل؟! في الواقع، مِن الصعب أنْ تجد عائلة، أحدُ أفرادها على الأقلّ لم يستفِدْ مِن منحةٍ ما، سواءٌ في العمل في إحدى المؤسّسات، أو في الدراسة في الخارج، أو في المشاركة في مشروعٍ ما. فلماذا لا يتوقَّفُ كلُّ مستفيد مِن منحةٍ ما عن التعليم أو الطبابة أو العمل، إنْ كان متحقِّقًا مِن أهداف هذه المنح الشيطانيّة؟!
في جزء آخر من العالم العربي، تحديدًا في السودان، نجَحَتْ شابّة سودانيّة في توجيه الإعلام العالميّ إلى الثورة السودانيّة، بعد أسابيع من اندلاعها. صُورتها وهي واقفة أمام الجموع بالثوب الأبيض الأنيق والأقراط الذهبيّة، أصبحت حديثَ الساعة في كلّ الوسائل الإعلاميّة العالميّة. امرأة في مجتمع مُحافِظ، ذاتُ صوت مسموع، تُغنّي فتتجاوب معها الجموع المحتشِدة، تقف كتمثال الحرّيّة في اعتزازها بنفسها. لقد أصبحت رمزًا للحَراك بسبب صورة.
ما إنِ انتشرت الصورة في العالم، حتّى خرج علينا أصحاب نظريّات الأصابع والأجندات، يصِفُون اللقطة بالمصطنَعة، ويتّهمون الإعلام في العالم بالتحيّز. إلّا أنّ الصورة حقيقيّة ورائعة، ولا يُمكن لمُخْرج أنْ يصوِّرها بهذه البراعة، وبكلّ الظروف المحيطة بها. أمّا التحيّز إلى المرأة، فهو موجود ومُحِقٌّ وعادل، وحتّى أكُون مُنصفةً وعادلة في طرحي، أقول: ليس الإعلام الغربيّ والعالميّ متحيّزًا إلى المرأة، بل أغلبُ دول العالم المُتحضِّر أيضًا. وهذا تَحيُّز مُحقٌّ.
مِن الطبيعيّ، أنْ تتعاطف معَ الأكثر تعرُّضًا للقهر والقمع، في بلاد تَنشدُ حرّيّتها. فالقمع الجاثم على أنفاس النساء مُضاعَف. وهذا لا يعني بأيّ شكل مِن الأشكال، عزل قضايا المرأة عن قضايا المجتمع التي تشمل المرأة والرجل معًا، لكنّه بالتأكيد يُعلنُ أنّ المستقبل سيحمل الحرّيّة للجميع، ولن يكون لجنسٍ على حساب آخر.
أيضًا مِن الطبيعيّ، أنْ نجد في صورة الفتاة السودانيّة أملًا. فصَوتها الذي عَلا يُخبرك بالقادم، الذي ستكُون للمرأة فيه دورٌ بارز وصوتٌ مسموع. ليست ثورةً هذه التي تَنقلك من استبداد إلى استبداد، وليست ثورة هذه التي ترى في الحرّيّة صندوقًا انتخابيًّا، يُعزِّز سلطة نصف المجتمع ويُهمِّش نصفه الآخر، تحت مُسمّيات الحفاظ على القيم والخصوصيّة. الحرّيّة ليست مقتصرة على الرجال دون النساء. الحرّيّة كتاب كبير، لا يكفي أنْ تقرأ فيه فصلًا وتَخرُجُ هاتِفًا، في حين تُهملُ الفصول الأخرى؛ لأنّها لا تُناسبك.
لا ثورة بدون حرّيّة، ولا حرية بدون المرأة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.