تَسكُنني الحَيرة مع شيء من الارتياب، كلّما راودني هذا السؤال: "كيف يمكن لأديان عانَى مؤسِّسُوها الاضطهادَ والتكفير، أن ينتمي إليها اليوم تكفيريّون، أو تَتبنّى في خطاباتها مواقف مكفِّرة للآخرين؟". إنّ في أساس الأديان التوحيديّة الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، صراعًا بين تكفيريِّين لم يكتفوا برفض هذه الرسالات بل عملوا على اضطهادها، ورُسلٍ ومؤمنِين اختاروا الهجرة لكي لا يَنْزلقوا في تكفير مُضادّ، وصراع يُفقدهم أمانتهم للقيم المؤسِّسة لإيمانهم.
عندما تَبنّى النبيُّ إبراهيم الإيمان التوحيدي، ولم يُجارِهِ أبوه في ذلك -بحسب الرواية القرآنية-، حيث بقيَ متمسّكًا بعبادة الأصنام، اضطُرّ إبراهيم إلى أن يهجر عشيرته بسبب موقف والده "التكفيري"، حسب ما ورد في سورة مريم: {قالَ أراغبٌ أنت عن آلهتِي يا إبراهِيمُ لئن لَم تنتَهِ لأَرجمنَّكَ واهجُرني مليًّا} [مريم: ٤٦]. نجد هنا لدى والد إبراهيم رفضًا لمبدأ الاختلاف الديني، وموقفًا عنيفًا من ذلك بحيث هدّده بالرجم، في حين أنّ إبراهيم -على الرَّغم من الاختلاف الديني والتهديد العنيف مِن قِبَل والده-، تَمسّك بما يبدو أنه قِيَم هذه الدعوة الدينية الجديدة. فقد ألقى إلى أبيه السلام، ووعده باستغفار الله من أجله: {قال سلامٌ عليكَ سأَستغفِرُ لك ربّي إنَّهُ كانَ بي حفيًّا} [مريم: ٤٧]. يعني ذلك أن إبراهيم رأى والده -رغم بقائه على دينه- أهلًا للسلام تحيّة وعلاقة من قِبَله، وللرحمة من قِبل الله.
عندما أتى السيّدُ المسيح، عاداهُ واضطهده بعض اليهود. فمع أنهم ورَثةُ الإيمان الإبراهيمي وقِيَمه، إلّا أنّهم عادوا إلى السلوك الذي كان لدى والد إبراهيم، متخَلِّين عن أمانتهم لرسالة نبيّهم وأخلاقه. فعلى الرَّغم من الخلاف الديني العميق بين المسيح والكهنة اليهود، لم يُعلنهم المسيحُ كَفَرة ولم يدْعُ إلى اضطهادهم، بل كان يُبكِّتهم على كبريائهم وريائهم، في استغلال الدين للسيطرة على الناس ولمنافعهم الشخصية. أمّا هُم، فاتَّفقوا على "تكفيره" وأصدروا الحكم بقتله، إذ قال "قَيافا" عظيم الكهنة: "ها قد سمعتم التَّجديف. فما رأيُكم؟ فأجابوه: يَستوجب الموت" (متَّى 26: 65-66). عانى تلاميذُ المسيح ورسلُه الحواريّون مِن بعده أيضًا، الاضطهادَ الشديد بسبب إيمانهم الجديد، مع أنّهم مِن جهتهم بَقُوا على احترامهم لتقاليد الدين اليهودي. وكان نتيجة ذلك أنّهم "تَشتّتوا جميعًا"، هربًا من الظلم والاضطهاد (أعمال الرسل 8: 1).
تَكرَّر الاضطهاد مع النبيِّ محمد مِن قِبل بعض أبناء مكّة، عندما أعلن الدعوة إلى الإسلام؛ ما اضطَرّ المؤمنِين المسلمين الأوائل إلى الهرب إلى الحبشة، طلبًا لحماية الملِك النجاشي المسيحي. وتقول السيرة النبويّة (لِابْن هشام) عن أمِّ سَلَمة أنها قالت: "لمّا نزَلْنا أرضَ الحَبَشة، جاوَرْنا بها خيرَ جارٍ، النجاشيَّ، أمِنَّا على ديننا، وعبَدْنا الله تعالى، لا نُؤْذَى ولا نَسمع شيئًا نَكرهه". واستمرّ الاضطهاد للنبي وأتباعه في مكّة، ما اضطَرّه إلى الهجرة إلى يَثْرِب، ليَأمن من "التكفيريّين". وعندما وصل إلى يثرب واستوطنها، بجوار قبائل أخرى من اليهود ومن غير أهل الكتاب، لم يكن لنبيِّ الإسلام أيُّ موقف تكفيري منهم، بل أقام عهدًا معهم وَفْق صحيفة المدينة، التي جاء فيها: "أنّ يهود بني عَوف أُمّةٌ مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم". فعبّر بذلك النبيُّ بكلِّ وضوح عن احترامه للاختلاف الديني، على عكس التكفيريّين في مكّة، الذين اضطهدوه بسبب إيمانه. وأكّد النبيُّ موقفه هذا في رفضه التكفير وفي احترامه لمعتقدات الآخرين، عندما استضاف داخل مسجده وفْدَ نجران المسيحي مع أساقفتهم ورهبانهم، وهم مُزْدانون بصلبانهم. وعندما حان وقت صلاتهم أقاموا الصلاة داخل مسجد الرسول، بِناءً على دعوة منه (تفسير ابن كثير).
يَظهر جليًّا أنّ الأنبياء والرسل عانَوا التكفير ورفضوا اعتماده، بل على العكس تمسّكوا بحرية المعتقد للجميع، وباحترام الاختلاف الديني، وبالتضامن العابر للأديان. فكيف أصبح بعض أتباعهم اليوم من التكفيريّين؟ لقد اختار الأنبياء الهجرة لأنّهم رفضوا التكفير، وليس العكس. فضحَّوا براحتهم وسلطتهم لكي يحافظوا على إيمانهم وقِيَمهم. التكفير فيه شيء من العصبيّة القَبليّة التي لم ولن تنسجم مع شموليّة الرسالات السماوية. فيبدو وكأنَّ بعضهم اليوم يُريد أن يُعيد الدين إلى الانغلاق القَبَلي، في حين عانى الأنبياءُ الاضطهادَ ليحافظوا على انفتاح الدِّين الكَوني. التكفيريّون قَبليّون، والمؤمنون إنسانَوِيّون برسالتهم وبانفتاحهم على غيرهم. التكفيريّون مضطهِدون ومهجِّرون للآخرين. أمّا المؤمنون، فمهاجِرون مع الآخرين نحو ربّهم، إذ قال النبي إبراهيم هربًا من التكفير: {إنّي مهاجرٌ إلى ربِّي} [العنكبوت: 26].
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.