الرجوع

الهند وباكستان والجرح النازف للتقسيم

الإثنين

م ٢٠١٩/٠٣/٠٤ |

هـ ١٤٤٠/٠٦/٢٧

نَشهد هذه الأيام تَوتُّرًا شديدًا بين الجارتَين النَّووِيَّتَين: الهند، وباكستان. وقد عرف تاريخ البلدَين العديد من الحروب والمشاحنات، التي تمُدّ جذورها في تقسيم الهند الكبرى لحظةَ الاستقلال، إلى بلدَين: الهند وباكستان، لتنفصل لاحقًا باكستان الشرقية أو بنغلاديش. كانت فكرة التقسيم تَنبع من الخوف على مستقبل الأقلِّيّة المُسْلمة، من قيام دولة هندية ذات أغلبية هندوسية. فقد تمتَّع المسلمون قرونًا بامتياز السيطرة على الهند، وتوحيدها تحت حكم المَغُول، إلى حين مجيء البريطانيين. فما كان في إمكان المسلمين استرداد ذلك المجد الضائع، ولا كان في إمكان جزء هامٍّ منهم التخلص من عقدة الخوف. تُنسب فكرة التقسيم إلى الفيلسوف محمد إقبال، وإنْ كان طموحه لم يتجاوز نوعًا من الحكم الذاتي للمناطق ذات الأغلبية المسلمة. أمَّا الذي قاد التقسيم فعليًّا، فهو محمد علي جناح (مؤسِّس دولة باكستان). وكانت فكرة "دولة من أجل المسلمين" في البدء، فكرة قوميَّة أكثر منها دينية. و"جناح" نفسُه كان ينتمي إلى النُّخبة المُعَلمنة، حيث يظهر ذلك من خلال حياته العائلية. فزوجته كانت بارْسِيَّة (زرادشتيّة)، وابنته تزوجت بهندوسي، كان هو نفسه ينتمي إلى أقلِّيّة شيعية "الخوجة"، وهم فرع من الإسماعيلية، في بلد يمثِّل فيه السُّنَّةُ معظمَ سكّانه. لكن الفكرة كانت تَحمل في طيَّاتها بذور الأصوليّة، بإنشاء "أرض للأطهار"، وهو معنى كلمة باكستان. وهذا ما شجَّع –في المقابل- على نموِّ التيارات الأصولية الهندوسية، وهو ما يسمَّى بالتحالف "الصامت" بين الأصوليات. لقد ترك التقسيم جروحًا لا تندمل، لأنّ معظم المناطق مختلطة ويَصعب فرزها. فقد شهد التاريخ واحدةً من أكبر عمليات التبادل السكاني: 15 مليون نسمة عبَروا الحدود في الاتجاهَين، وصاحبت ذلك مجازر فظيعة أوْدَت بحياة حوالي مليونَي نسمة. كذلك ترك التقسيم "مشاريع" حروب مفتوحة، و"كَشْمير" خير مثال. فهي منطقة "ذات أغلبية" إسلامية، وذات وجود هندوسي أصيل وقديم. جزءٌ كبير منها يقع في الهند، وجزء آخر يقع تحت السيطرة الباكستانية. ولا تزال هذه القضية تُلهب المشاعر إلى اليوم، ما لم تَجِد طريقها إلى الحلّ. و"كشمير" جزء من منطقة أوسع هي البنجاب، وهي أيضًا مقسَّمة بين البلدَين، مَثلُها كمَثل إقليم السِّند. وأيضًا البنغال من الناحية الشرقية، مقسَّم بين الهند وبنغلاديش. فكلُّ واحد من هذه الأقاليم، له وَحْدته اللغوية والثقافية والتاريخية، التي تُعاني آثارَ التقسيم. رغم كلِّ هذه المآسي، فإن التقسيم لم يَحلَّ شيئًا، بل زاد من قائمة المشاكل، بدايةً من انفصال بنغلاديش على إثر حرب شرسة؛ ما يدلُّ على أن العامل القومي يتفوَّق أحيانًا على العامل الديني. فمع أنّ الوحدة الدينية تَجمع البنغاليِّين والباكستانيِّين، فالشَّعبان مختلفان لغةً وثقافةً. ومعلوم أن فكرة التقسيم لم تحظَ بتأييد كلِّ المسلمين. وهذا ما يفسِّر أن عدد المسلمين في الهند يفُوق عددهم في باكستان، حيث لم يَفهم العديد منهم لماذا ينبغي أن تكون لهم دولة منفصلة! وتحتضن باكستان عددًا كبيرًا من "المهاجرين"، يُسمَّون أيضًا "الهنود"، ولا يزال جزء هامٌّ من أقاربهم في الهند، إذِ العائلات مقسَّمة، ويَشعر المهاجرون بأنهم غير ممثَّلين بشكل عادل في الدوائر الرسمية. أيضًا تحتوي باكستان على هندوس وسيخ وبارْسِيِّين ومسيحيِّين. لكن، هذه الخلافات والصراعات لا تُلغي حقيقة الوَحْدة الثقافية، التي تجمع الهند وباكستان. فالأُورديّة والهندية هما في الحقيقة لغة واحدة، ولا تحتاجان إلى ترجمة إلّا من حيث الكتابة، حيث تبنَّت الأُورديّة الخط العربي، والهندية الخط السنسكريتي. وهذا ما يجعل باكستان سُوقًا رائجة للسينما الهندية، من دون الحاجة إلى دبلجة. وجزء كبير من تراث البلدَين الفني والأدبي والموسيقِيّ مشترَك، فضْلًا عن اللباس والمطبخ والعادات والتقاليد. فتَكفي المقارنة بين الأعراس، حيث اللون الأحمر مثلًا هو لون الفرح، بغضِّ النظر عن الدين. والإسلام الهندي عاش دائمًا في حوار وتفاعل مع الهندوسية، إذْ يتجلّى ذلك في التصوف مثلًا، على الرغم من المحاولات الأصولية من الجانبَين، لِجَعْل الهُويَّتَين منفصلتَين ومتقابلتَين. لقد أثبتت التجربة التاريخية أن التقسيم ليس حلًّا، بل الحلُّ يَكمن في الدولة المدنية الديمقراطية، التي تُعامل جميع مُواطنيها بالتساوي، بغضِّ النظر عن الانتماء الديني أو الثقافي. فلا مجال للعودة إلى الوراء وإلغاء التقسيم، ولكن الأمل يَكمن في بناء دولة المواطَنة الكاملة الحاضنة للتنوع. ولا شك أن البلدَين، من أكثر بلدان العالم تنوّعًا على جميع الصُّعُد.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2025
تصميم وتطوير Born Interactive
معلومات ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين التنقل في الموقع وتحليل استخدام الموقع والمساعدة في جهود التسويق. تحقق من سياسة ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا للحصول على التفاصيل.

إعدادات الخصوصية

حدد ملفات تعريف الارتباط التي تريد السماح بها. يمكنك تغيير هذه الإعدادات في أي وقت. ومع ذلك، يمكن أن يؤدي هذا إلى عدم توفر بعض الوظائف. للحصول على معلومات حول حذف ملفات تعريف الارتباط، يرجى الرجوع إلى وظيفة المساعدة في المتصفح الخاص بك.
تعرف على المزيد حول ملفات تعريف الارتباط التي نستخدمها.

ضروري
وظائف
تحليلات
تسويق

هذا الموقع سوف:

  • يتذكر إعداد إذن ملفات تعريف الارتباط
  • يسمح بملفات تعريف الارتباط للجلسة
  • يجمع المعلومات التي تدخلها في نماذج الاتصال، والنشرة الإخبارية والنماذج الأخرى عبر جميع الصفحات
  • يساعد على منع هجمات التزوير (CSRF) عبر الموقع
  • يحافظ على حالة جلسة الزائر عبر طلبات الصفحة
  • تذكر إعدادات التخصيص
  • يتذكر الإعدادات المحددة
  • يتتبع الصفحات التي قمت بزيارتها والتفاعل الذي اتخذته
  • يتتبع حول موقعك ومنطقتك على أساس رقم IP الخاص بك
  • يتتبع الوقت الذي تقضيه في كل صفحة
  • يزيد جودة بيانات وظائف الإحصاء
  • يستخدم المعلومات للإعلان المخصص مع أطراف ثالثة
  • مح لك بالاتصال بالمواقع الاجتماعية
  • يحدد الجهاز الذي تستخدمه
  • يجمع معلومات التعريف الشخصية مثل الاسم والموقع

هذا الموقع الإلكتروني لن:

  • يتذكر إعداد إذن ملفات تعريف الارتباط
  • يسمح بملفات تعريف الارتباط للجلسة
  • يجمع المعلومات التي تدخلها في نماذج الاتصال، والنشرة الإخبارية والنماذج الأخرى عبر جميع الصفحات
  • يساعد على منع هجمات التزوير (CSRF) عبر الموقع
  • يحافظ على حالة جلسة الزائر عبر طلبات الصفحة
  • يتذكر إعدادات التخصيص
  • يتذكر الإعدادات المحددة
  • يتتبع الصفحات التي قمت بزيارتها والتفاعل الذي اتخذته
  • يتتبع حول موقعك ومنطقتك على أساس رقم IP الخاص بك
  • يتتبع الوقت الذي تقضيه في كل صفحة
  • يزيد جودة بيانات وظائف الإحصاء
  • يستخدم المعلومات للإعلان المخصص مع أطراف ثالثة
  • يسمح لك بالاتصال بالمواقع الاجتماعية
  • يحدد الجهاز الذي تستخدمه
  • يجمع معلومات التعريف الشخصية مثل الاسم والموقع

حفظ وإغلاق