بعد 62 عامًا على آخر وزير يهودي في حكومتها، منحت تونس نفسها -مَطْلع تشرين الثاني/نوفمبر- فرصة جديدة لإثبات احترامها للتعدُّدية الدينية، وإعلاء مفهوم المواطَنة، بتعيين مُواطن يَدِين باليهودية وزيرًا للسياحة. ولعَلَّكم تابعتم الجدل بشأن تعيين "رونيه الطرابلسي" في حكومة يوسف الشاهد، بين مُرحِّب بقوة ورافض بشدة.
تعيين وزير من أقلِّيّة دينية، يمرُّ بانسيابيّة في الأنظمة الديمقراطية المعترِفة بحرِّيّة المعتقد، المقرّة بالمساواة بين جميع مواطنيها. في تلك الأنظمة، الدِّيانةُ ليست حاجزًا دون تقَلُّد منصب سياسي، وليست معيارًا لتحديد كفاءة مسؤول. لكن تونس مع نظامها الديمقراطي اليافع، ومع إقرار دُستورها المساواة بين المواطنين، ومع "جرأة" رئيس حكومتها الشاب (43 عامًا) الذي تمسَّك برونيه الطرابلسي؛ لم تتَّسِم "شعبيًّا" ولا "نخبَوِيًّا" بالليونة المتخيَّلة للترحيب بالوزير، مع تُونسِيَّته.
وزيرٌ يهوديّ في حكومة عربية، في بلد ذي أغلبية مُسْلمة، خطوة غير عادية، لا سيما في ظلِّ الخلط بين الصهيونية واليهودية من جهة، وبين مدَنيَّة الدولة التي تحمي حرية معتقدات الأفراد، ودينِ الفرد الذي يعتقد أن دينه فوق دين الآخرين، من جهة أخرى. وهذا سبب التناقض في مشهد التعايش في تونس، المملوء بالتجاذبات، بين تيَّار يحترم التعدُّدية، وآخر يحاربها.
كان مشهد رونيه الطرابلسي، وهو يؤدِّي القَسَم دون وضع يده على أيِّ كتاب مقدَّس، مشهدًا حاملًا لعدّة دلالات. فقد عمَد الرجل إلى القَسَم دون وضع يده على التوراة، واضعًا حدًّا للسِّجال. سِجال لم يَخلُ من السماجة، حين انتشرت نِكاتٌ تَداوَلها حتى المثقفون: "هل سيُقْسم على القرآن؟ أم على التوراة؟". قُضِي الأمر. لم يُقْسم الرجل على شيء، بل أدَّى اليمين برفع يده، ليتعهَّد بالإخلاص لتونس والعمل بتَفانٍ لأجلها.
أُجبر رونيه -ولو بشكل غير مباشر- على تَنْحِية كتابه المقدَّس، ليُثْبت "وطنيّته". وهذا مشهد قاسٍ وظالم، يَستحضر مَشاهد تكرَّرت على مرِّ التاريخ، لإجبار الأقلِّيّات الدينية على الذوبان في المجموعة وطمس هُويَّاتها الدينية. "اخْفِ صليبَك عني، وامْحِ نجمتك السداسية؛ حتى لا أراها". عبارات صادمة، لكنها تتشابه إلى حدٍّ بعيد مع إخفاء توراة رونيه في حفل أداء القَسم.
وضْعُ الفرضيات لا يجعلنا نتقدم، لكنه يختزل واقعَ الكيل بالمكيالَيْن، وفَدْحَ انتشار اللَّامبالاة، تجاه الخروق الدستورية والأخلاقية والحقوقية. وبعض الأفراد يعتقدون أن القرآن دستور الدولة، والقَسم لا يكون إلّا على القرآن، وأن على الفرد أن يذوب في المجموعة، مُلْغِيًا خصوصيَّته الدينية.
قبل احتلال فلسطين عام 1948، كان اليهود في تونس يمثلون 20% من السكان. لكن التمييز ضدهم كان أمرًا واقعًا، إذ فُرضت عليهم الجزية في القرن 19، وفُرض عليهم ارتداء زيّ يميزهم عن بقية السكان بِحَمل نجمة أسفل السروال، ومُنعوا من ارتداء الشاشية، أي الطربوش الأحمر المميز الذي يرتديه رجال تونس. هذا التمييز "الشكلي"، يشبه إلى حدٍّ بعيد التمييز الذي تَعرَّض له رونيه، يوم أدائه القَسَمَ أمام السلطة التنفيذية.
هذا ما يجعلنا نتساءل: ما نفعُ دستورٍ جامعٍ للتونسيِّين، ناصٍّ على حرية الدين والمعتقد والضمير، وعلى أن الدولة تكفل ذلك للفرد، إن كان التطبيق أعقَدَ بكثير ممَّا ندَّعي؟ أليست الممارسات اليومية أكبر "بَطَلٌ ضِدّ" Anti hero، للحقوق المدنية والتعددية الدينية، التي كفلها الدستور، والتي يتفاخر التونسيون بها أمام الدول العربية، مقدِّمين تلك الإنجازات بطلًا حقيقيًّا Hero، لقصة الكفاح الشعبي ضد التمييز والظلم والاستبداد؟!
قبل سنوات من ثورة (كانون الأول/ديسمبر 2010 - كانون الثاني/يناير 2011)، مُنعت النساء في تونس من ارتداء الحجاب في الدوائر الحكومية وفي المؤسسات التربوية، وجرى تعقُّب بعض المحجَّبات حتى في الشوارع. مَشهد المطاردة القاسي والمهين ما زال حاضرًا في الأذهان، دليلًا على الاستبداد. وكان حاضرًا عند كتابة الدستور، للتنصيص على فصول تكفل الحريات الشخصية للمُواطن، أيًّا كان معتقده.
غير أن المُواطَنة في الدول الإسلامية، حتى المدَنيّة منها مثل تونس، ما زالت تصطدم بقراءات دينية تتعامل مع المُواطن المنحدر من أقلِّيّة دينية، كمُواطن من درجة ثانية، وما زال العقل الباطن الجَمْعي يعامل غير المسلم، لا كمُواطن كامل، بل كـ "أهل ذِمَّة". وهذا بالضبط ما حدث مع رونيه الطرابلسي، الذي عامله رئيس الحكومة كمُواطن. لكنَّ فئةً من الشعب، عاملَته كأهل ذِمَّة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.