في اليمن، وفي الوطن العربي عمومًا، ثمّة صراع من نوع آخر، غير الحروب المشتعلة في أكثر من قِطْر ومدينة عربية. هذا الصراع قديمٌ قِدَم العربيِّ نفسه، وقِدَم شركائه في الوطن من قوميّات وأعراق مختلفة. صراع يغيب عند تطبيق مبدأ المواطَنة المتساوية والعدالة الاجتماعية، وعند غيابهما يشتعل من جديد. هذا الصراع هو صراع الهُويّات. ولعلَّ أبرزَ مثال على ذلك، ما يجري في اليمن من استدعاء للهُويّات، بعد انهيار الدولة اليمنية، ودخولها في حرب عسكرية داخلية وخارجية.
"قَبْل ما يزيد على 12 قرنًا، عند بدء انهيار الدولة الأُمَوِيّة وميلاد الدولة العباسية، نظَم الكُمَيت بن زيد الأسَدي، قصيدته "المُذهَّبة" التي بلغت 300 بيت، وكانت جميعها للمفاخرة بين "عدنان" و"قحطان"، مفضِّلًا فيها الأول على الأخير، كما حطَّ من شأن اليمانيَة، ولم يَترك حيًّا من أحياء اليمن إلَّا وهَجاهُم أقذع هجاء". هذا ما جاء في مقدمة "المجد والألم"، للمؤرخ والشاعر اليمني "مطهر الإرياني". وهو ما دعا قحطان حينها إلى أن تَردَّ على ما اعتبرَته إهانة بحقِّها، ثم تَداعت قصائد اليمنيِّين تباعًا. ومِن أهمِّها قصيدة العالم والمفكر اليمني "أبو محمد الحسن بن أحمد الهَمْداني"، المسمّاة بـ"الدامغة". وقد نظَمها بنفس الوزن والقافية للقصيدة التى ابتدأها الأسَدي.
بعد منتصف القرن العشرين، عند انهيار المملكة المُتَوكِّلية في اليمن، وميلاد الجمهورية في ثورة 26 سبتمبر 1962، نظَم وزير خارجية الدولة المتوكلية "أحمد الشامي" عام 1967، قصيدة بعنوان "دامغة الدَّوامغ"، ردَّ فيها على الهَمْدانيِّ بعد ألف عام على قصيدته "الدامغة"، مُفْصحًا عن عصبية كانت متستّرة، أَنْعشَها خروج الأئمة من السلطة. فَردَّ على الشامي في حينه "مطهر الإرياني"، بقصيدة "المجد والألم". وهي قصيدة تُمجّد الإنسان اليمني، وتُفاخِر بقحطان وبالحضارة اليمنية، مسلّطة الضوء على آلام اليمنيِّ في ظلِّ حُكم الأئمة، الذي استمرَّ -ما بين قوة وضعف- في شمال اليمن، ما يقارب الألف عام.
اليوم، وبعد أن عادت الهاشمية السياسية ممثَّلة بـالحُوثيِّين، إلى السلطة في شمال اليمن، عاد معها إحياء القوميات والهُويّات مجدَّدًا، كرَدِّ فِعل على تفاخرها بانتمائها إلى "عدنان"، ووصف أي فرد فيها بـ"السيّد"، وعادت مهاجمة بعض رموزها وشعرائها للحِمْيَريِّين وتاريخ حِمْيَر، فضلًا عن توقيعهم على الوثيقة الفكرية والثقافية عام 2012، التي تنصُّ على عدم انتقال الحُكم إلى غير بني هاشم، لِكَونهم من نسل النبي محمد. وعلى إثر كلِّ ذلك، صدَحت عدة أصوات، من بينها القومية اليمنية "أقيال" (جمع قَيْل، وهي مفرَدة سبئيَّة تعني: المَلك أو سيِّد قومه). هذا التيار القومي، يَكبر ويتسع كلَّ يوم، مع أنه لا يزال يعمل في إطار الكتابة والتثقيف، وأيضًا ينادي بإعادة إحياء اللغة الحِمْيَريّة، التي لا تزال موجودة في محافظة المَهْرة وجزيرة سُقُطْرَى، وبالاحتفال بالأعياد اليمنية القديمة، واعتماد التقويم السنوي الحِمْيَري بدلًا عن الميلادي والهجري.
وكما يقول المفكر اللبناني "أمين معلوف" في كتابه "الهُويّات القاتلة": "هذا العصر يتميز بالتجانس والتنافر على حدٍّ سَواء"، نجد أن الشعب اليمني لا يختلف عن هذا الوصف. فمع تَجانُسه الواضح، إلَّا أنه يبدو مختلفًا عند غياب نظام الحكم الرشيد، سَواء في الشمال أو في الجنوب. ففي حين استدعى الحوثيُّون مفهومَ الهاشمية السياسية، طالَب بعضُ أبناء الجنوب بمفهوم الهُويّة الجنوبية، من خلال فكِّ الارتباط بشمال اليمن، لبناء وطن مستقلّ، وطالَب الحَضارم بدورهم بإعلان دولة حَضْرَمَوت المستقلّة عن الجنوب. حتى إن الهُويّات المَذهبيّة والمناطقية انتعشت، بالتزامن مع سعي مَذهبٍ لِحُكم مَذهب آخر بالقوة، وسعي منطقة لفرض كلمتها على منطقة أخرى بالسلاح، وصار كلٌّ يفاخر بعِرقه الهاشمي أو الحِمْيَري، وبمذهبه أو قبيلته أو منطقته الجغرافية.
إنّ كلَّ المذابح والمعارك الحاصلة في اليمن، مرتبطة بانتماءات معقّدة وتَحالفات قديمة، حيث إن هذا البلد لم يَشهد منذ ألف عام، استقرارًا سياسيًّا متواصلًا مدة نصف قرن، والضحية على الدَّوام هي الشعب اليمني وتُراثه وحضارته.
لا أخطَرَ مِن محاولة قطع حبل السُّرَّة، الذي يَربط الإنسان بإرثه وتاريخه. ولِكي يَضمن كلُّ مُواطن حقَّه، عليه أن يُؤْمن بأن للآخرين حقوقًا ويعترف بها. ولا أجْدَى في ظلِّ واقعنا الحالي من دولة المواطَنة المتساوية، والإيمان بالعيش المشترَك، من خلال دولة علمانية تَضمن المساواة للجميع. ولكن، يجب التنبّه لِمَا يؤكِّده أمين معلوف، أنَّ "العلمانيّةُ دُون ديمقراطية، كارثةٌ للديمقراطية ولِلْعلمنة على السَّوَاء".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.