عِلمُ الكلام المُعتَزِليّ والشِّيعي يقول بالحُسْن والقُبح العَقليَّين، أي إن الفعلَ يتصف بالحُسن والقُبح في ذاته، بغضّ النظر عن الأمر والنهي الإلهيَّين. لكن مع ذلك، لا نعثر في المباحث القديمة لعلم الكلام المعتزلي والشيعي على ما يعالج ماهيَّةَ القيم الأخلاقية، وما يتحدّث بوظائفها، وما يشرح مصادرَ الإلزام في الفعل والترك الأخلاقيَّين، وطبيعةَ العلاقة بين الوحي والأخلاق. كذلك لا نعثر في علمِ الكلام على مباحث تدرس الفضيلةَ والسعادةَ وكيفياتهما، وتكشف عن طبيعةِ العلاقة بين إنتاجِهما وأنماطِ الواقع المتغيرة، والمنابعِ المتنوعة لإلهامهما، تبعًا لتنوّع طرائق عيش الإنسان وبيئاته المختلفة.
هذا في علم الكلام الذي يتبنّى القولَ بالحُسن والقُبح الذاتيَّين للأفعال؛ أما في علمِ الكلام الأشْعَرِيّ، فالإشكاليةُ تأخذ صيغةً أخرى، إذ ينفي أبو الحسن الأشعري عن العقل قدرته على اكتشاف الحُسنِ والقُبح، ويشدّد على أن الحُسنَ هو ما حسَّنه الأمرُ الإلهي، والقُبحَ هو ما قبّحه النهيُ الإلهي. وهذا يعني ألّا يتصف الفعل بذاته بالحسن أو القبح، أو العدل أو الظلم، خارج ما يقوله الوحي، ويَلزم من ذلك أن العقلَ لا يحكم بقبح عقاب المطيع، أو ثواب العاصي.
وكما يعجز العقلُ حسب الأشعري وأتباعه عن اكتشاف الحُسن والقُبح، فإنه تبعًا لذلك لا يمكنه إدراكُ الأخلاقِ والفضيلة والسعادة، ووسائلِ بلوغها. من هنا، لم يعُد للأخلاقِ من حيث هي أخلاق، أيُّ مضمون خارج سياق الوحي، في علم الكلام الأشعري.
وذلك ما يكذّبه حضور الأخلاقيات المتجذِّرة في البنية العميقة للمجتمعات البشرية، التي لم تتعرَّف إلى الوحي الإلهي. فلو لم تكن هناك نواميسُ كونيَّة للأخلاق والعدل، وكان كلُّ حُسن يحيل إلى ما يُحسّنه الوحي، وكلُّ قُبح يُحيل إلى ما يقبحّه الوحي، لَأَفْضَى ذلك إلى تفريغِ الأخلاق من مضمونها، وغيابِ أيِّ فعل أو سلوك أخلاقي في المجتمعات البشرية التي لم تعرف الوحي. ومع أن تلك المجتمعات لم تعرف الأديانَ الإبراهيمية، ولم تصل إليها تشريعاتُ الوحي، فإن تاريخَها يبرهن على أن هناك حضورًا للكلمات والأفعال الأخلاقية في حياة الفرد والجماعة، وأنها تدرك أن للكلمات والأفعال الأخلاقية الأصيلة بصمةً في ضمير العالم. فكلُّ كلمة أخلاقية، وكلُّ فعل أخلاقي، حقيقةٌ أبدية. فلو تكلمتَ بكلمة طيبة، أو فعلتَ فعلًا حسنًا، لكان لكلٍّ منهما بصمةٌ في ضمير العالم على شاكلته. الكلمةُ ذاتها تقال عن صاحبها بأبهى صورها، والفعلُ ذاته يعود على صاحبه بأجمل مما فعل، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرٌّ.
الحياةُ الأخلاقية سلسلةُ مواقف، تصنع بمجموعها طَورًا وُجوديًّا خاصًّا للكائن البشري. إنها الشرطُ الذي يتحقّق به نمطُ حضورٍ إنساني لهذا الكائن في العالم، فهو من دون أخلاقٍ ليس إنسانًا. لذلك، لا يعبِّر الدينُ عن حضورِه الأصيل في الحياة، إلّا من خلال الحياةِ الأخلاقية. إن أخطرَ ما يهدّد وجودَ الدين في المجتمع هو ضمورُ الحسّ الأخلاقي في حياة الفرد والجماعة، وتَفشِّي التبريرات والحيل التي تتخفّى في نصوصٍ دينية، وتتَّخذها ذريعةً لتسويغِ انتهاك كرامةِ الناس، والتضحيةِ بحقوق الإنسان بوصفه إنسانًا.
وهنا أودُّ الإشارةَ إلى أنه يحدث أحيانًا خلطٌ بين ثلاث مجموعات من القيمِ، التي ينهلُ منها الإنسانُ وتُشبعُ متطلباتِ حياته، وهي: القيم الروحية، والقيم الأخلاقية، والقيم الجمالية. ولكلّ واحدة من هذه القيم وظيفتها الأساسية، وكلٌّ منها يحقّق كمالًا للإنسان على شاكلته، ويُشبعُ احتياجات أساسية لحياة الفرد والجماعة. نعم، هناك علاقةٌ عضوية من التأثر والتأثير المتبادل بين هذه المجموعات من القيم.
وما يهمُّنا الإشارةُ إليه هنا، هو وظائف القيم الروحية، والقيم الأخلاقية. فالقيم الروحية: تُشبع الفقرَ الوجودي للإنسان، وتروي الظمأَ الذي يعيشه كلُّ كائن بشري للمقدّس؛ فتكرّس كينونتَه، وتلهمه القوة، وتمنح إرادتَه توتُّرًا وصلابة. والقيم الأخلاقية: تعمل على إقامةِ بناءٍ سليم للروابط الاجتماعية، وتجعل العلاقةَ بالآخر عادلة، تنشد خيرَ البشرية وأمْنَها وسلامَها. لكنَّ القيمَ الأخلاقية لا تُثْرِي الفقرَ الوجودي للكينونة البشرية، ولا تروي الظمأَ المزمنَ للمقدس الذي ترويه القيمُ الروحية؛ لذلك أضحى المقدّس منبعًا لأمنِ النفس، وسكينةِ الروح، وطمأنينةِ القلب.
الإيمانُ بوصفه قيمةً روحية، يَهَبُنا ما لا تَهَبُنا إياه القيمُ الأخلاقية، إذ يمتلك تأثيرًا سحريًّا، تتسامى به الأرواحُ، فتُحلِّق في عوالم الملكوت. الحُبُّ أيضًا، ومع أنه يُسهم في منحِ حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا بغيرنا، الكثيرَ من الأمنِ والدفء والسلام، فتتجلَّى فاعليتُهُ الأخلاقيةُ في ترسيخِ العلاقات الاجتماعية، لكن الحبَّ بوصفه قيمةً روحية، يهَبُنا ما لا تهَبُنا إياه القيمُ الأخلاقية. للحبّ كيمياء خاصة تتبدّل معها مادةُ القلوب، فيصير جوهرُها نفيسًا. عندما يجد الإنسانُ قلبَه ما زال مولعًا بإنتاجِ الحبّ، ويتحوَّل الحبّ إلى طريقةِ عيش للإنسان، فسيكون الأقدرَ على إنتاجِ أجمل معنى لحياته وحياة الناس، إذ إن كلَّ من يتخذ الحبَّ طريقةَ عيش، يصبح فنانًا بارعًا، يرسم أجملَ الصور للحياة، التي يتبدّد معها الكثيرُ من ظلام العالم.
القيمُ الروحية تخفّف عنَّا مواجعَ الحياة وجروحَها ونكباتِها، وتكون فاعليتُها في بناء الأمن النفسي أعمقَ من القيم الأخلاقية. فمَهْما كان موقفُنا وضميرُنا أخلاقِيَّين، ومهما كنّا صادقِين وننشد الفضيلة، فإننا لو فُوجئنا بنكبة لَاستَنْزَفَتْنا، وربما نتهشَّم بها لو لم نمتلك رصيدًا روحيًّا يلهمنا المزيدَ من الطاقات، التي تمكِّننا من عبور تلك النكبة. لذلك، نجد الروحانيين المتيَّمين بحبّ الله والإنسان والعالم، هم الأقدَرُون على عبور نكباتِ الحياة من دون انكسارات وخسارات، وبلا ضياع وانهيارات.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.