لكل دين موقف وتعاليم من الحياة، وكل ما يرتبط بحركة الإنسان التي تضعه بين خيارات، يمكنه من خلالها الإسهام في تحقيق الخير، أو التصرّف بشكل يتعارض مع مبادئ دينه وقيمه. لذلك نجد في كل الأديان، إضافة إلى التعاليم المرتبطة بالعقائد الإيمانيّة كتعريف الله والعلاقة به، فصلًا عن موقف هذا الدين أو ذاك من الشؤون الاجتماعية والحياة العامة. قد يعتبر بعضهم أنّ ذلك فيه مبالغة لدور الدين الحقيقي، فيفضّل هؤلاء حصر الدين في الدائرة العباديّة الروحيّة، وعدم إقحامه في مسائل الحياة العامة؛ لتركها لخيارات الفرد انطلاقًا من وعيه الاجتماعي وضميره الإنساني. ولكن هذا الموقف غير قابل للتحقيق، إلّا على مستوى خيارات بعض الأفراد الذين يتبنّونه بأنفسهم، دون الرجوع إلى تعاليم ديانتهم. فالواقع يقتضي الاعتراف، بأن الأديان عامة مبنيّة على رؤية شاملة للوجود، تتضمّن فهمًا خاصًّا لمعنى الحياة ومسار التاريخ. كما أنّ الأديان عامة ترفض حالة الانفصام لدى المؤمن، بين إيمانه وعباداته من جهة، وحياته الشخصية والاجتماعية من جهة أخرى، بل تسعى الأديان إلى أن تكون الثانيةُ -أي الحياة الشخصية والاجتماعية- منسجمةً ومستنيرة بالتعاليم والمبادئ الإيمانية.
ما أُسمِّيه باللاهوت السياسي هو هذا الخطاب الديني، الذي يقدّم رؤية الدين، والمنظومة القيميّة المرتبطة بها حول ممارسة المؤمنين للشؤون العامة والسياسية. فيقدّم هذا الخطاب مثلًا تأصيلًا إسلاميًّا أو مسيحيًّا، لقيم النزاهة، والخدمة، والشجاعة، والتضامن، والتعاون، وروح المبادرة، والحوار، والمجازفة؛ كما ولمبادئ المشاركة، والعدل، والسلام، والتنمية، واحترام الحياة، والعدالة الاجتماعية، وغيرها التي تُوجّه خيارات المواطن السياسية بشكل ينسجم مع إيمانه. ما يُميّز هذا الخطاب هو أنّه يتوجّه إلى الأفراد على تنوّعهم، وليس إلى الجماعة كبوتقة واحدة، ويهدف إلى تعزيز المنظومة القيمية والمبادئ الفكرية المرتبطة بالحياة العامة، وليس إلى بلورة هوية دينيّة خاصة للجماعة أو الطائفة في السياق الوطني العام. يفترض أن يقوم هذا الخطاب على مبدأين:
المبدأ الأول يكمن في احترام حرمة الضمير الفردي، في خياراته الخاصة والعامة. يعني ذلك أن اللاهوت السياسي يقف عند عتبة خيارات الشخص، ولا يدَّعي امتلاك سلطة تُخوّله التدخل في هذه الخيارات وتوجيهها، بل يقوم بدوره في تنشئة وعي الفرد وضميره؛ لكي تأتي خياراته مبنيّة على قاعدة قيميّة سليمة. بهذا الشكل نفهم تعدّد واختلاف خيارات الأفراد، المنتمين إلى جماعة دينية واحدة. كما يكون واضحًا للجميع، أن الجماعة الدينية لا تتحمل مسؤولية خيارات الأفراد المنتمين إليها. فالمسؤولية الاجتماعية والسياسية تبقى منوطة بكل فرد.
أما المبدأ الثاني، فيكمن في احترام خطاب اللاهوت السياسي لحرمة المجال العام الذي يقوم في طبيعته على مبدأ الاستقلاليّة عن أي مرجعيّة خاصة. فالمجال العام هو المساحة المشتركة التي لا يمتلكها أحد، وليس لأحد سلطة تخوِّله فرض نظام معيّن فيه، أو إضفاء هويّة خاصة عليه. بل بالعكس، يشكّل المجال العام فضاء الحرية، حيث يتفاعل المواطنون على اختلاف انتماءاتهم الدينية وقناعاتهم السياسية، بعضهم مع بعض؛ لكي ينتج من هذا التواصل والتفاعل تحديد المصلحة العامة المشتركة وتطويرها باستمرار.
يعود تبنّي اللاهوت السياسي لهذين المبدأين، إلى ثقة الدين بالإنسان، وقدرته على تحقيق الخير العام في ضوء عقله الحر، وضميره المسؤول، على مثال ثقة الله بالإنسان. إذ منذ أن خلق الله الإنسان، راهن على قدرته المسؤولة على إدارة شؤون الحياة، فاعتبره وفق التراث الإسلامي "خليفة" له على الأرض، وفي التراث المسيحي "سيّدًا" على سائر المخلوقات.
يتناقض هذا المفهوم للاهوت السياسي، مع "السياسة اللاهوتية" التي بدورها تلغي حرية الفرد ومسؤوليته، وتضعه أمام منظومة دينية للسياسة والحياة العامة، يُصبح دور المؤمن فيها تنفيذ أحكام "شرعيّة"، وفق قرارات السلطة المتحكمة بهذه المنظومة. فالسياسة اللاهوتية تعبّر عن رؤية دينية شمولية ليس للحياة وحسب، بل لمنظوماتها المختلفة، بما فيها السياسية وتطبيقاتها العملية. يَسقط مع هذه المقاربة المبدآن المرتبطان باحترام حرمة الفرد وضميره، وحرمة المجال العام وطبيعته المستقلة. كما تُقحِم السياسةُ اللاهوتية الدينَ في مجال هو بذاته مفتوح على التجارب، ومرتبط بصراع المواقف والبرامج؛ ما يعرّض الدين لتحمّل عواقب التنافس والفشل وحتى الظلم.
لهذا السبب، أعتقد أنه بقدر ما هو من حقّ أيّ دين أن يشتمل خطابه وتعاليمه على مضامين قيمية، تسهم في تنشئة ضمائر المؤمنين، لتعزيز قدرتهم على تحديد خياراتهم وترشيد التزاماتهم في الحياة العامة، فمن مصلحة كل دين أيضًا، أن يبتعد عن تجربة السياسة اللاهوتية، التي تسقطه في تجربة الهيمنة على استقلالية المجتمع، وضمائر الناس، وهذا ما لا يرضاه الله لا للإنسان ولا للدين.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.