يتزامن اليوم الأول من شهر رمضان المبارك في هذا العام، مع أول احتفال لليوم العالمي للعيش معًا بسلام، الذي أعلنَتْه الأمم المتحدة بقرار 130/72 في 8 كانون الأول/ديسمبر 2017. إلَّا أن اليومَين يتزامنان أيضًا مع تاريخ النكبة، ومع المقتل الوحشي لـ 85 فلسطينيًّا، وجَرْح أكثر من ألفَي مُدافع عن القدس كعاصمة لِفلسطين، ومناهضٍ لافتتاح سفارة الولايات المتحدة فيها.
يستوقفني هذا التزامن المربَّع الأبعاد لِأَتساءَل: كيف نوفِّق بين حياتنا الروحية وتَوقِنا إلى السكينة الداخلية وسعيِنا للعيش معًا بسلام من جهة، ووحشيّة ما نعيشه يوميًّا من قتل وتهجير وتخاذُل وبيع للقضايا السامية ولأرواح الناس من جهة أخرى؟ وكيف لنا ألَّا نَشعر بأن الأيام العالمية هذه، أضحوكة لا صلة لها بالواقع؟ وكيف لا نستسلم لليأس والحزن والقنوط في مكانٍ ما؟ وكيف يمكننا حمل رايات العيش معًا والسلام، دون أن تكون شعارات تتناسى آلامَ شعوب هذا العالم ومعاناتَهُ؟
أظن أن السبيل إلى ذلك، هو أن نتمتّع بالبصر والبصيرة معًا، البصر الذي يرى الألم والمعاناة والظلم العارم من حولنا، والبصيرة التي تشهد كل أعمال صانعي الخير في هذا العالم مهما كانت صغيرة، والتي تحاول أن تضعها أمام أعين الناس كي لا يأكلهم اليأس. تفعيل البصر والبصيرة يساعدنا بدوره على العمل على صعيدَين متوازيَين: صعيد التضامن مع القضايا الإنسانية، والمجاهَدة ضد الظلم والعنف والوحشية وانتهاكِ حياة البشر وكرامتِهم وأرضهم وحقوقهم؛ وصعيد إلقاء الضوء على مبادرات التضامن، وعلى المواقف الإنسانية التي تعيد لنا الأملَ بدل اليأس، والإيمانَ بالخير الذي يمكن أن يفعله الإنسان.
لذا، في خِضَمّ هذه المأساة التي تعيشها فلسطين في هذه الأيام، والتي يَشعر بها كل عربي متضامن مع القضية الفسلطينية، لا بد من لفت الانتباه إلى أن المبادرة إلى إعلان اليوم العالمي للعيش معًا بسلام، آتيةٌ من العالم الإسلامي. فقد قدّم الطَّرحَ للأمم المتحدة الشيخُ خالد بن تونس، وهو الرئيس الفخري للجمعية العالمية الصوفية العلاوية، والشيخ الحالي للطريقة العلاوية، وهي طريقة صوفية أُنشِئَت في مستغانم في الجزائر على يد الشيخ أحمد العلاوي عام 1909. وقد ركّز جميع مشايخ هذه الطريقة منذ نشأتها على مفهوم الأخوَّة العالمية، وعلى ضرورة العمل على إخاء القلوب بشكل عابر للتنوع الثقافي والديني. أما الجمعية العالمية الصوفية العلاوية، فقد أنشأها الشيخ الحالي للطريقة خالد بن تونس عام 2001، وتُوجَد في بلدان عدّة في العالم، وجرى الاعتراف بها من قِبل الأمم المتحدة عام 2012 كجمعية غير حكومية عالمية، وأصبح لها مركز استشاريّ أمام المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة.
ومنذ عام 2014 عمِلت الجمعية على حشد المناصرة، لكي يحصل الإعلان من قِبل الأمم المتحدة بيوم عالمي للعيش معًا بسلام، ثم حمَل تواقيعَ هذه الحملة الشيخ ابن تونس إلى اجتماع الأمم المتحدة، حيث تحدّث قائلًا: "إن الإنسانية التي تحيا فينا تعبِّر عن ذاتها، عندما يختار كل منا أن يجعل من حياته مصدر غنى مع الآخر ولأجل الآخر. أتوجَّه إلى الإنسانية في كل منكم، طالبًا منكم جعل هذا اليوم العالمي للعيش معًا بسلام، تذكيرًا لأهمية المصالحة في الأسرة البشرية، ودعوة للأمل لكل من يؤمن ويَتوق للأخوة الإنسانية".
يذكِّرنا كلام الشيخ ابن تونس، أنه في وجه الوحشية والظلم علينا ألا ننسى الإنسانية التي تحيا فينا، فلا يدفعنا اليأس إلى مواقف لا إنسانية. يذكرنا أيضًا أنه إن كان هناك "آخَر" ظالم معتدٍ يجب مواجهته، فهناك أيضًا "آخَر" صديق مدافع عن قضايا الناس معنا، مهما اختلف عنا في الدين أو المعتقد أو الثقافة. فلا يهدف إعلان هذا اليوم إلى إضافة شعار فارغ، بل يحث الأفراد والدول على "الالتزام بالرغبة في العيش والعمل معًا، متَّحِدين في ما بينهم من اختلافات وتنوع، من أجل بناء عالم مستدام قوامه السلام والتضامن والوئام".
أيضًا أستَقرِئ فهمًا جديدًا لكيفية عيش روحية شهر رمضان، من تزامُن بدايته مع هذا اليوم العالمي، وقدومه بعد ذكرى النكبة بيوم. فشهر رمضان هو الشهر الذي نتعالى فيه عن احتياجاتنا الأولية، لكي نذهب إلى قلب الأمور ونركّز على أهمها، وهو الشهر الذي يذكّرنا بأهميّة التضامن مع الجائع، ليس فقط بمعنى المحتاج إلى طعام، بل الجائع الذي تُنتقص كرامته وحقوقه. فلا بد لنا مِن أن نعيش شهر رمضان، ليس فقط على صعيد أعمال الرحمة والبر بمساعدة الفقراء من حولنا، وإطعام محتاجين، بل علينا أن نعي أن سكينتنا الروحية تأتي مِن رفع مستوى الإنسانية فينا، وأن ذلك يأتي من تضامننا مع أي إنسان تُنتهك حقوقه، ومن مواجهتنا للظلم، ومِن عملنا مع إخوة لنا من أديان وثقافات أخرى في سبيل ذلك.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.