يسعى التأويل اليوم إلى محاولة ردم الهوّة الظاهرة بين النص المقدس، والحقائق العلمية والتاريخية التي تجلَّت في الفكر الإنساني الحديث، بعيدًا عن المسلَّمات والمقرَّرات العَقَدِيَّة. فالتأويل كأداة تفسيرية يهتم بدراسة المعاني المختلفة والمحتملة وراء المعاني الظاهرة للنصوص، وعدم الركون إلى التفاسير التراثية والتقليدية.
من الضروري التعرف إلى المفاهيم السابقة للمجتمع التي تنزَّلَت فيها النصوص المقدسة، سواءٌ أَتِلْك المفاهيم كانت دينية أم دنيوية، والتعرف إلى مساحة (الإدراج المفاهيمي) الذي الْتَبس باللغة السائدة إبَّان التنزيل، وتأثير الثقافات السابقة في فهم النصوص وتفسيرها. ومن أمثلة ذلك، ما أطلقه العرب قبل الإسلام على الشخص الذي يفقد توازنه العقلي أو النفسي، ووَصْمُه بالمس والجنون. وهكذا، تسللت المفاهيم القديمة عبر استعمال ذات التسميات اللغوية، المحشوة بالمفاهيم العقدية للعرب القدماء!
لا بد للتفكير التأويلي أن يأخذ في الاعتبار تاريخ التنزيل وظرفياته التاريخية، والانطلاق من كون التأويل معرفة علمية أصيلة يمكن أن تأتي بنتائج جديدة، وليست مجرد استرجاع لآراء المفسرين القدماء. ولمَّا كان تنزيل الكتب المقدسة متصلًا بالتاريخ، ومرتبطًا بأحداثه ومجرياته، فإن قراءة تلك الكتب بعيدًا عن سياقاتها يُعدُّ تحريفًا منهجيًّا لفهم مضامينها المعرفية والإصلاحية. ولعل غياب القراءة الموضوعية للسياق التاريخي للنصوص، هو أحد الأسباب التي جعلت الفكر الديني غير قادر على التمييز بين الصراعات السياسية والاجتماعية القائمة زمن التنزيل، فاعتبرها أنموذجًا عَقَدِيًّا معياريًّا لتفسير أحداث التاريخ كله.
الانطلاق من مسلَّمة وجود معنى واحد للنص غير قابل للتغيير أو التطوير، يخدم السلطة الدينية أكثر مما يخدم النص الديني نفسه. فالتأويل هو عملية مستمرة ومتنوعة لا تتوقف عند فهم، أو عند مرحلة بعينها.
النظر إلى التأويل باعتباره عِلمًا دينيًّا يسعى لاكتشاف المعنى الصحيح للنصوص (المعنى الأصلي)، يفضي إلى جعل التأويل جزءًا من عقيدة دينية أكثر منه نهجًا موضوعيًّا لفهم النصوص. ثم إن القطع بوجود فهم مطلق للنص الديني، وارتباط ذلك المعنى بالتفسير المأثور، قد أفضَيَا إلى تقديس التفسير المأثور، وتضليل التفسير بالرأي واعتباره انحرافًا عن جادَّة الحق. وإنِ انطلقنا من مقولة: "لا يخاطِب الله عباده بما لا يعقلون"، فإن الأصل في الكتب المنزلة أن تكون مفهومة ومعقولة للإنسان المخاطَب.
تفتح التعدديّة في التأويل أفقًا واسعًا أمام المدارس الدينية المختلفة، للتقارب والتكامل بعيدًا عن منطق التفرد والاستحواذ في فهم النص الديني. فالقول بتماهي فهم المفسِّر مع معاني الوحي التي أرادها الله، هو قول يستبطن ادعاء النبوة، وأيضًا ينطوي على كثير من المجازفة والاستعلاء.
طهارة النفس وأخلاقية الباحث، هما مسألتان ضروريتان للتوصل إلى التأويل الأحسن والأمثل. فعندما يتتبَّع الإنسانُ المُتشابِهَ من النصوص دون غيرها، فهذا يدل على خلل في أخلاقه ومقاصده. فالأصل في الإنسان أن يبحث عن المعاني والحقائق في عموم النصوص الدينية، لا أن يَقصُر بحثه على النصوص التي هي مظنَّة التناقض أو التعارض.
وفي الوقت الذي يبذل فيه العقل التأويلي جهودًا كبيرة للبحث عن أحسن المعاني وأبعدها عن الخطأ والتناقض، وعندما يتعلق الأمر بالنصوص الدينية التي يؤمن بها المُؤوِّل، فإن التحيز التأويلي يركز على النصوص الإشكالية والمتشابهة في النص الديني الآخر، ويبحث عن أسوأ المعانى التي تحتملها. وكما أن لدينا نصوصًا متشابهة تحتمل أكثر من معنى، وتحتاج إلى إعمال التأويل للتوصل إلى معنى ينسجم مع التصورات الأساسية، فكذلك النصوص الدينية الأخرى لديها متشابهاتها.
تأويل النصوص لا بد أن يسعى لالتماس أكثر المعاني احترامًا لكرامة الإنسان وحقوقه. فالتأويل من أجل الإنسان وكرامته، لا يقِلُّ أهميةً عن التأويل ابتغاءً لتنزيه التصورات العقدية للإله وصفاته. والتأويل يجب أن يصدر عن منهجية علمية تتصل بدراسة لغة النصوص، وعلوم اللغة، والحقيقة والمجاز، والأخذ بالاعتبارِ السياقَ الموضوعي للآية، والسياق التاريخي.
لا بد للتأويل أن ينسجم مع المقاصد العامة للدين والحياة، وهذه المقاصد لا تقتصر على أَتْباع دين بعينه، وإنما تشمل البشرية جمعاء من حيث المقاصد الكلية للوجود الإنساني.
لعل النظر إلى الأنبياء باعتبارهم مجتهدين في فهم التنزيل، وليس مجرد مبلِّغين للتنزيل، يفتح أمام الفكر الديني آفاقًا رحبة للاجتهاد والتجديد. فالأصل في التفسير أنه عمل اجتهادي ومعرفة إنسانية، يتصلان بثقافة المفسِّر وعصره، وليس وحيًا سماويًّا منفصلًا عن التاريخ وعالم الأسباب.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.