لم يحدد القرآن سن الزواج، وهذا يعني أن المجتهدين الذين يفقهون واقع مجتمعاتهم، هم المَعنيُّون بتحديد السن المناسب للزواج بما يلائم مصلحة مجتمعاتهم. ومع ذلك، نجد كثيرًا من الكِتابات تتحدث بزواج الأطفال، وكأنه هو الحل الأمثل لمشكلة العُنُوس والانحرافات الأخلاقية. وعادة ما يَستدلُّ أنصار ذلك الزواج ببعض النصوص والمروِيَّات، كما برواية زواج النبي عليه الصلاة والسلام بعائشة وهي ابنة ست سنوات! والغريب في الأمر أننا نجد مِن الكتّاب مَن يسعى إلى الدفاع عن تزويج الأطفال، من خلال التدليل على أن الكتاب المقدس قد تضمَّن إشارات إلى ذلك، وكأن التدليل على ذلك يحل المشكلة الأساسية!
جزء أساسي من مشكلة تزويج الأطفال، يكمن في استعمال التسمية المناسبة التي تُظهر خطورته على الفرد والمجتمع، وهنا يمكننا الإشارة إلى ثلاث تسميات يستعملها الباحثون في هذا الخصوص: التسمية الأولى التي يطلقها كثير من الكتَّاب المعارضين للمشكلة هي "زواج القاصر"، وهذه التسمية وإن كانت تُنفِّر في مضمونها من ذلك الزواج، لكنها لا تصف أساس المشكلة التي تتعلق بالاعتداء على الطفولة، ثم إن القاصر قد يكون طفلة، وقد يكون امرأة مصابة بمشكلة نفسية أو عقلية، وغير قادرة على القيام بمسؤوليات الزواج. والتسمية الثانية هي "الزواج المبكر"، وهي تسمية يمكن أن تنطوي على تسويغ ذلك الزواج والترويج له؛ فالتبكير في الأعمال هو شيء محمود في كثير من الأحيان. والتسمية الثالثة المستعملة هي "زواج الصغيرات"، وهذه أيضا كسابِقتَيها قد تخفي المضمون القبيح للفعل، ثم إن البحث عن زوجة صغيرة هو أمر مرغوب في كثير من الثقافات الشعبية التقليدية!
يمكن لنا أن نَلمح بعض الإشارات القرآنية التي تتنافى مع تزويج الأطفال، كما في زواج موسى من ابنة شعيب عليه السلام: {قالَت إحدَاهُما يا أبتِ استَأجِرهُ إِنَّ خيرَ مَنِ استَأجرتَ القويُّ الأمِينُ} [القَصَص: 26]. فابنة شعيب كان لديها القدرة على تقييم أخلاق موسى عليه السلام وقدراته (القوي الأمين)، وكان مهرها متصلًا بعَمله مع النبي شعيب في رعاية ماشيته.
التدبر في الحديث النبوي القائل: "يا معشَر الشَّبابِ منِ استَطاعَ منكُم البَاءةَ فليتزوَّج، فإنَّهُ أغَضُّ للبَصرِ، وأَحصنُ للفرجِ، وَمَن لَم يَستَطِع فعلَيهِ بالصَّومِ فإنَّه لَهُ وجَاء" (البخاري)، يؤكد أن الشباب وليس الأطفال، هم المخاطَبون للإقبال على الزواج. ويُشترط على الشباب المقبِلين على الزواج أن يكونوا قادرين على "الباءة"، والباءة ليست مجرد القدرة المادية أو الجسدية على الزواج حسب ما ذهب إليه كثير من الفقهاء، وإنما يدخل فيها الاستعداد العقلي والنفسي، وحسن الاختيار، والقدرة على تحمُّل المسؤوليّة.
غالبًا ما يرافق تزويج الأطفال أشكالًا مختلفة من الإكراه والإجبار، وأيضًا يتصل ذلك الزواج بمفاهيم ذكورية تتذرع بالعِرض والشرف، وهذا يذكِّرنا بمشكلة وأد البنات التي كانت شائعة لدى بعض القبائل العربية القديمة، وانتقدها القرآن. وإذا كان ذلك الوأد قد انتهى، فإن تزويج البنت الصغيرة يمثل شكلًا من أشكال الوأد المُسوَّغ بذريعة الخشية على العِرض والشرف.
ينطوي تزويج الأطفال على استهانة واستخفاف بمكانة الأسرة وأهميتها في الحياة الإنسانية. فالأطفال لا طاقة لهم باتخاذ قرار على هذه الدرجة من الأهمية والخطورة، يبقى مرافقًا لهم طَوَالَ حياتهم.
لا تتوقف مشكلة قبول إباحة زواج الأطفال، عند الإعاقة التي يُحْدثها في كسر معاني البراءة والطفولة فحسب، وإنما تتعدى ذلك إلى ما يترتب عليه من مخاطر وسلبيات تعود بالأذى على الأسرة والمجتمع كله.
الاحتجاج بالبلوغ المبكر للإناث، والانطلاق منه لتسويغ تزويجهن، يعكس مشكلة أخرى وأعظم في الوعي الديني، تتمثل بالخلط بين سن "البلوغ" وسن "الرشد"، وما يترتب عليه من اعتبار البلوغ معيارًا للمسؤولية الكاملة عن الفعل والاعتقاد في الدنيا والآخرة. والواقع أن سن "البلوغ" الذي يتصل بتغيرات بيولوجية تطرأ على الجسد، يختلف عن سن "الرشد" الذي يمثِّل علامة نضج للعقل، من خلال التعلم والخبرة.
جاء في الديانة الهندوسية "إذا لم يوجد زوج ملائم تبقى الفتاة في منزل أبيها كعازبة حتى نهاية حياتها" (شريعة مانو). فالزواج الملائم يهدف إلى تحقيق السكينة في النفوس، والمودة والرحمة في الجوانح والجوارح، وليس إلى استغلال براءة الطفولة، وانتهاك حق الطفل في عيش طفولته.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.