جاء في دعاء بابِليّ قديم لإله القمر "إنَّني أرْكعُ أمامَكَ، وأُبقي هذه الحال أطْلبُ وَجْهَكَ عساكَ َتسْتجيبُ لِرَغباتِي في العَدْل وهناءَةِ العَيْش عسايَ في اللَّيل أسْمَعُ غفْرانَ ُذنوِبي" .
آمن الناس منذ آلاف السنين بوجود قوًى حكيمة ومدبِّرة وراء هذا العالم، وقدَّموا لها طقوس الخضوع وقرابين المحبة والولاء، وهذا يؤكد تشابه هموم البشر وطموحاتهم. فأتباع الأديان يسعون إلى غاية عظمى أطلقوا عليها تسميات وأوصافًا مختلفة.
ولعلَّ المدرك لهذا التشابه العميق بين مقاصد المعتقدات، يعلم أن النظر إلى التراث الديني الإنساني باعتباره انحرافًا عن حالة دينية بِعينها، يمثِّل إساءة كبيرة إلى البشرية، ويعيق التعرُّف إلى التطور الطبيعي للفكر الديني.
لا تمثِّل المعرفة الدينية استثناءً للتراكم المعرفي، الذي مرَّت به مجتمعاتنا البشرية. فالاعتقاد بأن الفكر الديني قد وُلد كاملًا، ويمثِّل حالة معرفية مستقرة قادرة على فهم معاني الحياة ومشكلاتها، لم يَعُد أمرًا مقبولاً لدى الباحثين في الدراسات الإنسانية المعاصرة.
لم يكن العقل الإنساني في القديم قادرًا على تفسير ظواهر الطبيعة بطريقة علمية، كما هو الحال لدى الصِّينيِّين القدماء مثلاً، الذين اعتقدوا بأن الكسوف يعود إلى محاولة تِنّينٍ ضخم ابتلاع الشمس. لذا، كان الصينيُّون يقرعون الطبول لتخويف ذلك التِّنِّين ودفعِه بعيدًا عن الشمس! إن الحاجة إلى وجود تفسيرٍ ما لظواهر الطبيعة ومشكلات الحياة، دَفَع بالمخيّلة البشرية إلى ابتكار تفسيرات أسطورية، شكَّلَت مساحة كبيرة من الفكر الديني الإنساني.
الاعتقاد بوجود قوة خلف الموت ومظاهر الحياة، فتح الباب واسعًا لاشتقاق أسماء مختلفة، تمثّل في عمومها أشكالا أوّليَّة لمفهوم "الإله" الذي يقف وراء كل ظاهرة يعجز الإنسان عن إدراك كنهها وطريقة عملها. ونظرًا لتعدُّد ظواهر الطبيعة؛ فإن هذه الآلهة كانت متعددة بل ومتصارعة في بعض الأحيان. فالتوحيد يمثّل مرحلة متقدمة من مراحل التفكير الإنساني الديني، تَمكَّن خلاله الإنسان من التوفيق والجمع بين قوى الطبيعة المتعددة، في صيغة مجرَّدة تستعلي على الوجود كله.
ليست المشكلة الحقيقية في الفكر الأُسطوري، من حيث كونه مرحلة مرَّ بها العقل الإنساني؛ وإنما المشكلة الكبرى عندما يتمكن ذلك الفكر من خارطة ذلك العقل الإنساني، ويقوِّض سعيه لتقديم فهم أفضل للحياة!
ومما يجعل عملية المراجعة العلمية للمعرفة الدينية أكثر صعوبة، اتِّصالُ هذه المعرفة بالعواطف والمشاعر البشرية، الأمر الذي يجعل من وضعِ هذه المعرفة في إطار عِلميّ سببِيّ يمثل مهمّة صعبة، ومخاطَرة غير مضمونة العواقب أمام سلطة الوعي الجمعي. لا يُمكن الفصل بين شعور الإنسان بالمقدَّس، وسعيه الدائم لفهم ذاته ومحيطه الوجودي. كما لا يمكن القطع بعدم اشتمال ذلك التطور الطبيعي للوعي الديني الإنساني على "شرارة الإلهام"، التي أوقدت سعيه لبلوغ المعرفة الأكمل.
فالإنسان يخطئ وتلتبس عليه الأسماء والأوصاف، كما فعل ذلك الراعي الذي أضاع راحلته في الصحراء، وعندما وجدها بعد أن أعياه البحث عنها "قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ" .
ولا يبتعد عن هذا المعنى قصة موسى والراعي التي ذكرها جلال الدين الرومي، عندما سمع موسى راعيًا يتضرع إلى الله قائلاً: "إلهي، يا من تصطفي من تشاء.. أين أنت حتى أُصبح خادمًا لك، فأصلح نعليك، وأمشط رأسك، وأغسل ثيابك، وأقتل ما بِها من القمل، وأحمل الحليب إليك أيها العظيم! وأقبّل يدك اللطيفة، وأمسح قدمك الرقيق، وأنظّف مخدعك حين يجيء وقت المنام. يا من فداؤك كلُّ أغنامي، ويا من لِذكرك حنيني وهيامي".
فقال له موسى: "حذار، إنك قد أوغلت في إدبارك، وما غدوت بقولك هذا مسلمًا، بل صرت من الكافرين. ما هذا العبث؟ وما هذا الكفر والهذيان؟ ... فقال الراعي: "يا موسى، لقد ختمت على فمي! وها أنت ذا قد أحرقت بالندم روحي!". ومزّق ثيابه، وتأوَّه، ثم انطلق مسرعًا إلى الصحراء، ومضى. فجاء موسى الوحيُ من الله قائلاً: "لقد أبعدتَ عني واحدًا من عبادي!".
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.