أصدَر المفكر المغربي رشيد أيلال كتابه "صحيح البخاري نهاية أسطورة" سنة 2017، مُنافِحًا (مُدافِعًا) فيه عن فكرة أن كتاب "صحيح البخاري" المشهور الذي تحوَّل إلى مرجع مقدَّس داخل الإسلام السُّني، هو كتاب "مجهول المؤلف، لا أصول له، ولا حقيقة لوجوده". وفي شهر آذار/مارس 2018 صدر قرار قضائي بمصادرة الكتاب، تحت ذريعة أنه يشكل "مسًّا بالأمن الروحي للمواطنين، ومخالَفةً للثوابت الدينية المتفق عليها".
رُغم أنَّ رفض كُتب الحديث، وإشكالية تناقُض المَتْن الحديثي مع المتن القرآني، جرى طرحُهما -وإلى الآن- بشدَّة، خصوصًا داخل التيار القرآني، إلَّا أن الكثير من الأصوات دعَت إلى منع تداول الكتاب؛ بدعوى أنه يشكك في مصدر أساسي للحديث والسيرة النبوية. وقد تعرَّض مؤلف الكتاب، في سياق يشبه محاكم التفتيش، للتشهير وتحريض المصلِّين خلال خطبة صلاة الجمعة، والتسفيه حتى من بعض أعضاء المؤسسات الدينية. وفي العديد من المواقع، تعرَّض للتهديد عبر فتاوى تدعو إلى تحريم طبع الكتاب وتوزيعه، والتوعُّد بالعقاب في الدنيا والآخرة.
ما يهمُّنا هنا ليس هو البعد العِلمي والأكاديمي للموضوع، بل ردود الفعل التي تُحيل على ظاهرة صناعة الجهل المقدس، وفِقْه التكفير داخل المجتمعات الإسلامية، وأيضًا الانتكاسة الأخلاقية للعقل الإسلامي العاجز عن الانتقال إلى أخلاق التعددية، وقبول الآخر، والتبادلية. تكشف ردودُ الفعل هذه، عن تجذُّر الميل نحو تحويل المتون البشرية إلى مرجعيات مقدسة؛ ما يجعل العقل الإسلامي التقليدي ينتقل من فكرة استحضار الإيمان، من خلال القراءة المتجددة للدين، إلى استظهار النصوص والاختباء وراءها.
قام الفكر الإسلامي بمختلف مذاهبه بصناعة العشرات من البديهيات والأساطير، التي أحاطها حرَّاس المذاهب بهالة من التقديس. الكثير منها تَهدم العقل الفطري الذي يؤسس له القرآن، وتُعطِّل مَلَكة التفكير الفردي الذي يغدو خطيئة لا غفران لها. وأعتقد شخصيًّا أن الأكثر خطورة، هو أن تقديس المسلَّمات سمح بالانتقال التدريجي من الإنسان المقدس أو الإنسان الحرام، إلى النص الحرام؛ ما سمح بالشرعنة الدينية لاستعباد الإنسان، واستباحة حياته أو كرامته: (مفاهيم الرِّدة، والبدعة، والزندقة، والكفر، وضوابط الإيمان..). وقد أثارت النقاشات حول الكتاب الكثيرَ من الأحاديث المتعلقة بمعاملة غير المسلمين، وبعقائد الكراهية والولاء والبَراء؛ ما يطرح أيضًا سؤالًا حول مهادات التعددية داخل الدين، أو بين الأديان في المجتمعات الإسلامية.
تمنع صناعة الوساطات الدينية الإنسان المسلم من مركزية القرآن، وفكرة تكريم البشرية من خلال نفخ الروح فيها، أي خلْق استمرارية بين الله والإنسان؛ فيعيش المسلم حالة انفصام مع البعد الأخلاقي للدين: (التكفير، وتَشْيِيء المرأة، وإهانة المخالف باسم الله).
في النهاية، ومن خلال عملية انتداب لاهوتي جرَت صياغتها تاريخيًّا، أصبحت كُتب الصِّحاح والتفاسير نُوَّابًا عن الله.
لا شك في أن المسلمين واعُون بهذا المأزق. يشهد على هذا مثلًا مشروعُ الملك سلمان، في إطار ما يسمى في السعودية بالتوجه الجديد وتصحيح الفكر الديني، وذلك بإنشاء هيئة خاصة للتفكير في الاستعمالات المتطرفة للحديث النبوي، ومراقبة تفسيره، منْعًا لتبرير العنف والإرهاب. غير أن القضاء على ما تسميه المؤسسة الدينية بالأحاديث الكاذبة، سيتطلب ليس فقط عملية مراقبة، بل تحوُّلًا معرفيًّا عميقًا، وانتقالًا من سلطة النص إلى سلطة الكرامة الإنسانية. يبدو هذا التحدي صعبًا عندما نعي أن رجال الدين في العالم الإسلامي، تَخلَّوا عمومًا عن دورهم التنويري، وأصبحوا عائقًا أمام الإصلاح، بسبب تقديس المرجعيات البشرية، والعجز عن جعل الإيمان بالله قوة لتحرير العقل من كهنوت السلف.
في أثناء كتابتي للمقال، علِمتُ أن الأستاذة "أسماء المرابط"، رئيسة (مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام) التابع للرابطة المحمدية للعلماء، قدَّمَت استقالتها منذ أسبوع، بسبب مواقفها التجديدية بشأن المساواة في الإرث، وإلغاء قاعدة التعصيب. قوبِلَت مواقفها بالترحيب من طرف التيار التنويري، في حين أن تيّارَين ممثِّلَين عن المؤسسة الدينية رفَضَا أيَّ اجتهاد مع النص، ثم إنّ سلَفِيًّا شعبوِيًّا واسعًا وصفها بأنها انحرفت عن ضوابط الشرع، وبأنه لا حقَّ لها في التفكير في ما هو ثوابت ومسلَّمات.
الحقُّ والحقُّ، أنَّ ما يزعزع الأمن الروحي للإنسان، هو الكثير من الحواشي التي تحجب عنا نور الله وحبَّه.
أنا أقول: أَخرِجُوا تلك الكتب، ودَعُوا الله يَدخل قلوبنا!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.