قال المفكر السعودي الراحل عبد الله القصيمي إن العرب ظاهرة صوتية. وجَوّدَ البعض على المقولة، منهم من قال إن الحنجورية هي المذهب الأقوى في المنطقة، وهناك من أشار إلى أنه لولا الأحبال الصوتية والقدرات الكلامية والمهارات السفسطية، لفنيت المنطقة قبل دهور. وألمح فريق ثالث إلى أن الناتج القومي العربي من الصراخ، والمجموع الكلي الإقليمي الناجم عن التناحر اللفظي، كانا كفيلَين بنقل سكان المنطقة من قاع التصنيف الأممي من حيث التقدم والتنمية إلى رأسه.
رأسُ وزير الأوقاف المصري المتنور المتفتح المقدام الدكتور محمد مختار جمعة، أوعز إليه أن يمنع بث صلاة التراويح في رمضان، عبر مكبرات صوت المساجد في مصر. ولمن لا يعلم ما الذي جرى في مصر ورمضانها وتراويحها على مدار العقود الأربعة الماضية، فقد تحولت المسألة من عبادة سامية راقية تملأ البلاد بالبركات والتأملات الساكنة، إلى استعراض لعضلات التدين، واستنفار للمواطنين المسلمين، حيث من لم يهرع للصلاة فهو هالك، ومن لم يستمع لما يقوله الإمام والخطيب على مدار ساعتين أو ثلاث أو أربع، فهو مارق، ومن لم يرضخ لتفسيرات عذاب القبر وهلاك الفرد، ودمار البلاد وخراب العباد، فعليه أن يعلم أن الشيطان منعه.
وتطور الأمر عبر السنوات، لينشطر استعراض العضلات واعتماد مبدأ القوة، على حساب العقل والتفكير والسماحة والرحمة، إلى جزيئات صغيرة تدَّعي كل منها أنها صاحبة التوكيل الحصري الرباني المعتمد، وذلك عبر مجموعة المساجد والزوايا التي تكاثرت في عموم البلاد، بعيدًا عن أعين الدولة، وقريبًا من جيوب جماعات الإسلام السياسي. وكانت النتيجة صلوات تراويح متضاربة متشابكة متداخلة، يعتمد إمام كل منها أحبالًا صوتية أقوى، تعضدها مكبرات صوت يابانية (وربما صينية) أعتى. وتبخَّرت روحانيات التراويح، وتبددت سلوكيات الصائمين، واختُزِلت مظاهر الدين في مؤشر مكبرات الصوت.
ومع البَخْر جاء النحر. نحر التديين الدين نفسه والمتدينين. وكما الشواطئ الراسخة المتآكلة بفعل الأمواج الهادرة، تغلبت المظاهر الصوتية للدين على الجوهر الروحاني. الجوهر الروحاني المتآكل، والجاري نحره بفعل أمواج مكبرات الصوت الهادرة، ومعها بقية مظاهر التديين الهائجة، تفرض نفسها على الساحة بين الحين والآخر. وأحدث قفزة تبدو واضحة جلية في هذا الأوان، في الجدال المحتدم حول صلاة التراويح ومكبرات الصوت. المتابع للنقاش يشعر وكأن الله سبحانه وتعالى يقف في صف المتمسكين بتلابيب المكبرات، في حين يقف الشيطان على جبهة المجاهرين والمتجرئين برفض المكبرات، وليس رفض الصلوات.
الشيخ الأزهري المعمّم كاد يبكي على الهواء، وهو يدافع عن الضرورة الحتمية، والصيرورة الإلزامية، والكينونة الانفعالية، لصلاة التراويح عبر المكبرات. والحق يقال إن حجته في الدفاع جاءت قوية أبيّة: "ومن الذي يكره القرآن؟!... خمس صلوات في اليوم، ومنها صلاة واحدة طويلة بعض الشئ. ما العيب في ذلك؟! أم أن أصوات الأغنيات البذيئة، وورش النجارة والحدادة والميكانيكا، على قلوبكم أحلى وأجمل من صوت القرآن؟... آآآه يا ألله! آآآه يا رسول الله (ص)!". وينخرط الشيخ في نوبة بكاء هادئة، فيرد الضيف المجابه المتبنِّي حِلف الشيطان، الرافض للتراويح في المكبرات: "أَسكن بيتًا في حارة ضيقة مواجهة لمكبرات صوت المسجد. وفي كل يوم يؤذِّن الشيخ لصلاة الفجر. نستيقظ جميعًا نظرًا للصوت العالي، ولا نتمكن من النوم مجددًا. هل يُرضي ذلك أحدًا؟!". ينسى الشيخ الباكي حزنه ويرد بكل فصاحة: "لا! لا يُرضي أحدًا بالطبع. فأنتم تسمعون الأذان وتحاولون العودة إلى النوم، ولا تقومون للصلاة!".
وتستمر المواجهة، وتستعر المجادلة في كل صوب وحدب. المتواجهون والمتجادلون، لا تزعجهم تلال القمامة التي تلقيها جموع المؤمنين في الطريق، ولا تؤرقهم المدارس التي صارت هياكل بناء دون تعليم، وبالطبع منزوعة التربية. ولا تضعضعهم رياح التفتيت والتشتيت والتهجير والتشريد، التي تعصف بالمنطقة العربية، ولا تَكرُبهم المئات التي تركب المتوسط يوميًّا انتظارًا لغرق في عرض البحر، أو عمل كالعبودية في شمال المتوسط.
لكنَّ أخطر ما في هذا الجدل الحنجوري المستعر، هو تلك الثنائية القاتلة المرتبطة بالتديين. فالمعترض على إغلاق الشوارع من أجل الصلاة حتمًا كافر. والمعارض لجمع التبرعات في المساجد دون رقيب حتمًا مرتد. وهذه المرة المطالب بمنع المكبرات، تابع لجماعة "علمانية ضالّة متطرفة مآلها جهنم وبئس المصير"، حسب تأكيد متصلة ببرنامج تلفزيوني، بصوت مجلجل قوامه الصراخ، وإطاره الصياح، حتى وهنت أحبالها الصوتية، وخفتت قدراتها الحنجورية.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.