تَعوَّد المثقف العربي، الديني أو اللاديني، العملَ منفردًا في زاوية من بيته، أو ركن من مكتبه، يفكّر وحده ثم يقرّر ما تخطّه يُمناه أو يسراه، ليرسله إلى قرَّائه الأعزاء. وكذلك يفعل الإمام، يكتب خُطبته الأسبوعية وحيدًا، ليفاجئنا يوم الجمعة بعِظَته العصماء. شخصٌ واحد يخطب ويتكلّم، والباقون يصغون بانتباه حينًا، أو بأعين يداعبها الكرى أحيانًا أخرى.
قرأتُ قبل سنوات عن مسجد تَقرَّر فيه أن تكون خُطبة الجمعة عملًا جماعيًّا، يشارك فيه أعضاء مجلس للتفكير، فتكون الخطبة ثمرة عمل أسبوعي من التفكير الجماعي، يُلْقيها أحدهم، رجلٌ أو امرأة، نيابةً عن جميع المشاركين. هذه الفكرة البسيطة هي ثورة حقيقية في نظري؛ لأنّ حبّ الزعامة هو نواة الديكتاتورية. كلّنا ديكتاتوريون ما دمنا نحلم بمجد الأنا ضمن دائرتنا الضيقة أو الموسّعة، ونَكيل لهذه الأنا الممجَّدة صفات الجمال والخيرية والتعالي، بما يكفي لتحويلنا إلى صنم -لأنفسنا أوّلًا ولغيرنا ثانيًا- نعبده في السرّ والعلانية. فالعمل الجماعي المؤسَّسي ليس فقط ضرورة ديمقراطية، ولكنه يحمل رسالة أخلاقية تحريرية تمهّد للخلاص مِن وَهْم الأنا وصنميّتها.
المقصود هنا ليس الصيغة التشاركية المذكورة، فقد تكون مرفوضة في بيئات محافظة، ولكن الغاية أن يكون الإمام على اتصال بنبض الناس، أن يستمع ويحاور ويتقبّل الجديد، ويُشرك الشباب، ليس فقط في إعداد الخطبة، ولكن في تحويل المكان إلى واحة لِلِّقاء والتفكّر والسلام. فيصبح المسجد ملجأ روحيًّا تسمو فيه نفوسنا وتتحقّق إنسانيتنا، حتى نَخرج للشارع مواطنين مؤمنين بالله، وبخدمة المجتمع.
يدور جدال حول المؤسسة الدينية الإسلامية ودورها، بين رافضٍ لها محمِّلًا إياها أسباب تخلّف الخطاب الديني وجموده، ومُدافعٍ عنها كتقليد عريق لا بد من المحافظة عليه. في الحقيقة، المؤسسة الدينية ليست مجرد ضرورة عملية لدفع رواتب: الإمام، والمؤذّن، وفواتير الكهرباء والماء، وتكاليف الحراسة والتنظيف، وما إلى ذلك من المستلزمات المادية للبناء المادي للمسجد، وهي أمور تتكفّل بها عادةً وزارات الأوقاف أو الجمعيات الراعية للمكان، ولكنها ضرورة دينية اجتماعية، قائمة على العمل الجماعي التشاوري، لبناء الصرح المعنوي والرمزي.
رمزية المسجد تجمع بين قيمتين أساسيتين: الأُولى أن المكان مَطْرح سجود، والسجود هو التعبير الأسمى عن التواضع والتخلّي عن الكِبْر والأنانية، والسجود هو قمّة الصلاة، فالصعود إلى الله يبدأ بالنزول سُجَّدًا، بوضع الجبين على الأرض التي أتينا منها، فلا يرتفع أنفٌ عاليًا فوق الناس عُجْبًا وخُيَلاء. القيمة الثانية هي قيمة الشورى المرتبطة بالجماعة. فالصلاة لا تعني فقط لقاء الله في لحظات الصفاء، ولكن أيضا لقاء الإنسان في بيت الله، فينتقل ذلك الصفاء القلبي ليصفّي العلاقات الإنسانية، لأجل بناء أخوَّة روحية حقيقية. فهل تُحقّق مساجدنا هاتين القيمتين؟ أتُراها تتحمّل اختلافنا وتعدّدنا؟
بالتأكيد، يوجد أئمة استطاعوا أن يقوموا بمهمتهم على أحسن وجه، فلا يجوز التعميم. ولكن، كثيرًا ما أَخرُج من الجامع خاوي الوفاض من السكينة الروحية، ويمتلئ رأسي بالضجيج والصياح. ويا للأسف، تُروَّج صورة الإمام منتفخَ الأوداج، الساخط على الناس الذين نبذوا الدين وانغمسوا في الخطيئة! فأتحسَّر، كم من فرصة أسبوعية ضائعة للقاء الناس وإرشادهم بالحكمة الرؤوفة الحانية! المشكلة لا تتعلّق فقط بالدعاية السياسية والحزبية والطائفية، أو بخطاب الكراهية؛ فكلّها أمورٌ مرفوضة لأنها تفرّق بين المصلّين أنفسهم، وتفرّق بينهم وبين من حولهم من أتباع الأديان والطوائف الأخرى، وكل ذلك باسم دين "التوحيد"! ولكن المشكلة تتعلّق بشكل أعمق بـ"إنسانية" الخطاب، أو بعبارة أدق بـ"الخطاب التربوي المؤنسَن والمؤنسِن"، الذي يساعد المتلقي على النضوج وتحقيق إنسانيته، عبر التفكّر في كلام الله.
إصلاح الخطاب الديني يرتبط أساسًا بإصلاح المؤسسة الدينية، التي ينبغي أن تجد استقلالها إزاء الدولة، وأن تستعيد ارتباطها بالجامعة الإسلامية والأوساط العلمية، لضمان تكوينٍ عالٍ للأئمة. فلا إصلاح للجامع من دون إصلاح المؤسسة، ولا إصلاح للمؤسسة من دون إصلاح الجامعة، ولا إصلاح للجامعة من دون أجواء من الحرية والديمقراطية والمراجعات العميقة. وهذا لا يعني انتظار الإصلاح من الأعلى، فالإصلاح يبدأ من الأسفل عبر التجارب الصغيرة التي تنجح وتتوسع.
لقد سمّمَت الديكتاتوريات الخطاب الديني لعقود طويلة، فبات خطابًا رسميًّا متخشِّبا، أو خطابَ معارضة أصولية غاضبة. فلا إصلاح إلا بتحرير الخطاب من آفتَيْهِ الفوقية والتحتية، الدولة والمعارضة، وبعودته إلى روح الرسالة التربوية الإنسانية.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.