كان يُفترض في الفكر التفسيري، الذي أعطى الشِّعر الجاهلي دورًا مركزيًّا في فهم ألفاظ القرآن وتفسيره، أن يعطي السُّنَن الاجتماعية والتاريخية دورًا مماثلًا في فهم معاني القرآن وتأويله، خاصة وأن اللغة العربية لم تكن بمعزل عن التكوين الثقافي والاجتماعي والبيئي للعرب قبل الإسلام. فهل كان الأثر التاريخي حاضرًا في فهم التنزيل مرَّةً واحدة فقط، أم أن الأمر أوسع من ذلك وأرحب؟
يمكننا أن نستشعر اليوم الأثر الوبيل، الذي نجم عن إهمال دور التاريخ في فهم النص وتنزيله، وكيف أدَّى ذلك إلى جعل الأحكام الظرفية بمنزلة ثوابت عَقَدِيَّة، كما في قضايا الرِّقِّ والسَّبْي والجِزْية وربط حقوق الإنسان بمعتقده.
لم يكن نزول القرآن عملية إلقاء قَهْري من السماء إلى الأرض؛ وإنما كان عملية تنزيل حكيم، اقترن الوحي فيها بالإنسان، والنبيُّ بالمجتمع. وتُمثِّل القصَّةُ القرآنية التعبيرَ الأوضح، عن تفاعُل النص القرآني مع الأحداث والتجارب النبوية والإنسانية. ومِن أهمِّ النصوص التأسيسية، التي تؤكِّد حضور الظَّرْفيّة التاريخية في فهم النبوَّة والرسالة، قوله تعالى: {ومَا أرسَلنَا من رسُولٍ إلَّا بلسانِ قومهِ ليبَيّنَ لَهُم} [إبراهيم: 4]. فقد شاءت حكمة الخالق أن يكُون التنزيل وَفْق أَلْسِنة الأقوام، الذين يَبعث الله إليهم المرسَلين. واللغة هي إبداع بشَرِيّ تراكُميّ، امتزجت فيه معارف الإنسان بمحيطه البيئي والاجتماعي. وليس استعمال القرآن للألسنة البشرية انتقاصًا لقيمة التنزيل؛ وإنما توظيفٌ لأمثل وسائل التواصل التي يَعقلها الإنسان.
مِن غير المُمكن للإنسان، أن يَفهم خطابًا بعيدًا عن سياقاته المعرفية التاريخية. ولذلك، خاطب القرآن الإنسان على قدر وسعه المعرفي: {ذَٰلكَ مبلغُهُم منَ العِلمِ} [النجم: 30]. وإنْ كانت بعض المعارف الإنسانية المعاصرة، كالاستنساخ أو تكنولوجيا الاتصال الرقمي، مستغلَقة على عقول الأسلاف، فهل كان في إمكانهم أن يستوعبوا معارف مجردة وخارجة عن سياقاتهم البشرية؟ لعلَّ موقف الإمام الغزالي من عِلمَي الطبِّ والفلك، خير مثال على ما نقول. فقد اعتبرهما الإمام في كتابه "المنقذ من الضلال"، من المعارف التي "لا يتصور أن تُنال بالعقل".
النظر إلى النص القرآني كحالة إعجازية وغيبيّة مفارقة، لا ينسجم مع واقع التنزيل الذي استغرق ثلاثًا وعشرين سنة، وتباينَت فيه الموضوعات والسِّمات البيانية تبَعًا لاختلاف المكان والزمان.
دار جدل قديم حول هل "العِبْرة بعموم اللفظ، أم بخصوص السبب"، أي هل معنى النص يؤخذ من دلالة اللفظ، أم أن سبب نزول ذلك النص هو الذي ينصبُّ عليه المعنى؛ هذا الجدل كان دلالةً ربما على بداية تَشكُّل وعيٍ تاريخي في فهم التنزيل، يستوعب الدلالات اللغوية للألفاظ، ويُدرك العلاقة السببية بين حركة المجتمع ونزول الآيات والأحكام. وقبل أن تنجح الدراسات اللاهوتية المسيحية في تطوير ما يُعْرف بـ"عِلم اللاهوت الظَّرْفي"، الذي يراعي ظروف المجتمع عند تقديم المفاهيم والتصورات الدينية؛ كان الفكر الإسلامي قد تنبَّه للعلاقة بين حركية التاريخ ودلالات النصوص الدينية، وكان ذلك من خلال تَشكُّل عِلم أسباب النزول.
مَثَّل عِلمُ أسباب النزول منطلَقًا لبناء علاقة سببية، بين النص والعوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في زمن التنزيل، لكنه بقي محصورًا في دراسة الأحداث والأحكام الجزئية، ولم ينتقل إلى تكوين قواعد معرفية، تستوعب الأثر الثقافي والاجتماعي والسياسي في حركة النص، كما في دلالته ومعانيه.
كان من المفترَض أن تكُون فكرة "تغيُّر الأحكام بتغيُّر الأزمان"، بمنزلة خطوة في اتِّجاه الاعتراف بأثر الظرفية التاريخية، في عملية تَشكُّل النص الديني وتنزيله على الواقع. لكن، جرى اختزالها بالفُتْيا وجوانب محدودة من الأحكام الفقهية. ومِن السهل القول بأن الأحكام التشريعيّة العملية قد جاءت على قدر الوسع البشري، لكنه من غير اليسير إدراك أن المضامين المعرفية للتنزيل، قد جاءت على قدر الوسع البشري أيضًا.
تاريخية التنزيل، لا تنفصل عن تاريخية الإنسان ومعارفه التراكمية. وهذا الاتصال هو الذي يعطي النص فاعليته وتأثيره في تغيير الواقع. وهنا، لا بد من الخروج من ثقافة "أسْطَرة النص" وحصره في أفهام محدَّدة، إلى "فتح النص" وفهمه وَفْق الأدوات المعرفية المعاصرة. ولكن ذلك لن يكُون، إلّا عندما نُدرك أنّ مقاصد التنزيل لا تتعارض ومقاصد الخَلق والتكوين، وأنَّ فِقه التاريخ هو المَدخل الأمثل لفهم التنزيل واكتشاف فاعليته.
نحن أحوَج ما نكُون إلى فهم جديد للنص، يستوعب اللحظة الحاضرة للمفسِّر، وأيضًا يستوعب الخبرات الإنسانية قبل التنزيل وبعده. فالمفسِّر يمثِّل نقطة الالتقاء بين النص والتاريخ والواقع، ووظيفته (المفسِّر) لا تقتصر على التوضيح وشرح الألفاظ والجُمَل؛ وإنما تسعى إلى تكوين منطلَقات معرفية وأخلاقية، مِن شأنها أن تُحْدث تغيُّرًا في الفرد والمجتمع، وتُحقِّق الأمن والعدالة في الأرض.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.