على بُعد خطوات من باب قصر الحكومة بالقصبة في العاصمة تونس، وقفَت "دليلة" (اسم مستعار) تُراقب حركة الحَرَس الخاصِّ برئيس الحكومة، وهُم يُطوّقون المكان ويحيطون بالرَّئيس من كلِّ جانب، حتى دخل القصر واختفى عن الأنظار. وهكذا، خابت محاولة "دليلة" الأخيرة للوصول إلى رئيس الحكومة، وتسليمه رسالةً كتبَتها على ورقة، اقتلعتها على عجل من كرَّاس حفيدتها.
"دليلة" امرأة معنَّفة من بين آلاف المعنَّفات في تونس، قِصَّتها تُشبه قصص نساء أخريات معنَّفات، مع فارق في درجة العنف المسلَّط عليها. فهي معنَّفة من زوجها وابنها وابنتها، وزوج ابنتها أيضًا، لا لشيء سوى أنها تُعيلهم جميعًا من عملها في البيوت. لا أحد من أسرتها يعمل باستثنائها هي، ومع ذلك تُسلِّم كلَّ مالِها للزَّوج والابن والبنت، ولا يتبقَّى شيء لها. وكلَّما حاولَت إقناعهم بالبحث عن عمل، وجَّهوا لها الشتائم وانهالوا عليها بالضَّرب.
قصَّة "دليلة" الَّتي لم تصل إلى رئيس الحكومة، تحتوي على تفاصيل أكثر دراميَّة، أمتنعُ عن ذِكرها في هذا المقال لحماية هُويَّتها، لكنَّ هذه الدّراما تُشبه حكاية وجع نساء كثيرات في تونس وخارجها. ففي تونس، سُجِّل منذ شباط/فبراير 2018، تاريخ دخول قانون "القضاء على العنف ضدَّ المرأة" حيِّز النَّفاذ، وفي كانون الأول/ديسمبر 2018 أُثبِتَت أكثر من 40 ألف قضيَّة عنف ضدَّ المرأة والأطفال، بحسب المكلَّفة بملفِّ مقاومة العنف ضدَّ المرأة، وبرنامج ترسيخ المساواة في وزارة المرأة والأسرة والطُّفولة وكبار السِّنّ.
أربعون ألف حالة عنف في سنة واحدة، رغم وجود قانون يجرِّم العنف ضدَّ المرأة، أيًّا كانت درجة قرابة المعنِّف من الضَّحيَّة. وعلى الرَّقم الأخضر الذي وضعَته وزارة المرأة للإبلاغ عن العنف الأُسَريّ، تلقَّت الوزارة أكثر من 6500 مكالمة، وأفادت أنَّها تابعَت خلال سنة ملفَّات 1600 ضحيَّة عنف، بمعدَّل 6 حالات يوميًّا، 62٪ منهنَّ تعرَّضْن للعنف المادِّيّ، و5٪ تعرَّضن للعنف الجنسيّ.
اليوم، والعالَم يُحْيِي الحملة الدُّوَليّة ضدّ العنف، من 25 تشرين الثَّاني/نوفمبر إلى 10 كانون الأوّل/ديسمبر، تتجدَّد المبادرات الرَّامية إلى الحدِّ من العنف ضدَّ المرأة، بوصفه أحد أشكال التَّمييز بين الجنسَين الأكثر خطورة. وكما في كلِّ عام، تَنشر الدُّول المَعنيَّة بهذه الحملة إحصائيَّات عن ضحايا العنف، مع توثيق لِمَا حقَّقَته حتَّى الآن من خطوات في سبيل الحدِّ منه. اللَّافت أنَّ تَرْسانة القوانين تُدعَّم، لكنَّ العنف ضدَّ المرأة لا يتقلَّص، بل يزداد ويشمل جميع الفئات العمريَّة. فبحسب منظَّمة الصِّحَّة العالميَّة، 30٪ من النِّساء المرتبطات في العالم، تعرَّضن لعنف الشَّريك جسديًّا أو جنسيًّا.
بالعَودة إلى "دليلة" الَّتي تتعرَّض للعنف الجسديِّ والمادِّيّ، سنجد نوعًا من الاستكانة وقبول العنف، لا استِلطافًا له، بل بسبب الابتزاز العاطفيّ، لِكَونها الأمَّ الحنون والزَّوجة الصَّبُورة والحَماة التي تخشى على زيجة ابنتها. فهي يمْكنها أنْ تَصفح عن الزوج والابن والبنت، والصِّهر أيضًا.
ولعلَّكم أيضًا تَذْكُرون قصَّة الفلسطينيَّة "إسراء غريب"، الَّتي قتلها "ذُكور" أسرتها بعد تعنيفها وتعذيبها عدّة أيّام، وسط صمْتِ أبيها وأمِّها. يا للأسف، "إسراء" أيقونة أخرى لضحايا العنف ضدّ المرأة. ففي كلِّ عام تُضاف إلى قائمة الضَّحايا أيقونة جديدة، وكأنَّه كُتِب على النِّساء هذا المصير. كانت إسراء ضحيَّة تلك المعتقَدات الخاطئة المتعلِّقة بـ"شرف الأسرة وعفافها"، وتلك الثَّقافة الَّتي تَمنح الذُّكور تفوُّقًا جنسانيًّا. فيَلُوذون بحماية المجموعة فَور تنفيذ جريمتهم، في ظلِّ ضعف المحاسَبة القضائيَّة، أو التَّعويل على الحصول على صفح من أسرة الضَّحيَّة.
حين تتحوَّل الأسرة في حالَتَي "دليلة" و"إسراء"، إلى أداة إجرام وقَتْل، تتفكَّك منظومة العائلة تمامًا. فتُوَرَّث ثقافةُ العنف من جيل إلى جيل، وتتلاشى مفاهيم الأمان والثِّقة والتَّكافل، الَّتي تَجْدر الأسرة بتقديمها لأفرادها. ثمّ إنّ صفة الأمومة في حالَتَي "دليلة" (الأمّ) و"إسراء" (البنت) تضمحلُّ تمامًا، إما بقبول "دليلة" للعنف، أو بعدم نجدة "أمّ إسراء" لابنتها الضَّحيّة.
إنَّ التَّفكُّك الأُسَرِيَّ لا يعني الإفلات من العقاب، بل هنا يتأكَّد دور المجموعة بوصفها الراعي لحقوق الفرد والحامي له. وأيضًا يتعزَّز دور الدَّولة، لا بوصفها ماكينة السُّلطة التَّنفيذيَّة الَّتي تَحرص على تنفيذ القوانين فقط، بل بوصفها الضَّامن لتوفير الأمان للفرد حين يَفقده في كنف أسرته. ولهذا، كان لقصَّة "دليلة" الَّتي وقفَت عند باب رئيس الحكومة رمزيَّةٌ كبيرة. فهي تَلُوذ بالدَّولة حين تستقوي عليها الأسرة وتعنِّفها، أو تَسلبها معاني الاحترام والإجلال الجديرة بها، كأمٍّ أوّلًا، وكإنسان حتمًا. ولقصَّة إسراء الدِّراميَّة رمزيَّة أخرى قاتمة جدًّا، وهي الضَّحيَّة الَّتي قتلَتها أسرتُها برجالها ونسائها.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.