لعلَّه الطفل الأشهر في العالم هذا الأسبوع، بعد أن اكتسح فيديو له وهو يرقص فرحًا، منصَّات مَواقع التواصل الاجتماعي ونشَرات الأخبار. الرقصة هنا ليست لِطفل عادي. فـ"أحمد رحمن" (5 أعوام)، طفل أفغاني من إقليم لوجار، مبتور الساق. جاءت رقصته بعد أن رَكَّب له الأطباء رِجلًا صناعية.
بُترَت رِجل أحمد في انفجار لُغم أرضي، حين كان في عمر 8 أشهر. لم يَعرف أحمد شعور المشي برِجْلين طبيعيَّتَين، وساقُهُ هي الرابعة التي تُركَّب له. فكلَّما كبُر أكثر، كان لا بد من تغيير رِجْله، حتى تتَّسق مع جسمه الذي ينمو. ولشدَّة فرحه برِجْله الأخيرة، رقص أحمد دون تَوقُّف، على أنغام موسيقى في مركز لجراحة العظام، يَتْبع اللجنة الدولية للصليب الأحمر في كابول بأفغانستان. وخلْفَه تصاعدت ضحكات نساء (ربّما الممرضات أو نساء من أهله)، كاشفًا ابتسامته العريضة، التي أسرَت قلوب الآلاف حول العالم.
أحمد، واحدٌ من آلاف الأطفال، ضحايا النزاع في أفغانستان. تَحوَّل إلى شهادة حيَّة على آثار الألغام في العالم. تقول اللجنة الدولية للصليب الأحمر: إنَّ 22 ألْف جهاز لأطراف صناعية، رُكِّبَت للمرضى الأفغان في مراكز إعادة التأهيل، التابعة لِلَّجنة في أنحاء أفغانستان. وهذا عدد قياسي، يَكشف حجم ضحايا النزاعات في هذا البلد. في حين تقول الأمم المتحدة: إنَّ نزع الألغام تمامًا من سطح الأرض، يحتاج إلى 1100 عام، وإنَّ الألغام المزروعة تهدِّد حياة 60 مليون شخص، وتَقتل شخصًا كلَّ 15 دقيقة.
في بلادي تونس، التي طوَت سنواتِ حرب التحرير منذ عقود، تتحصَّن فيها مجموعات إرهابية بجبال سمامة والشعانبي، حيث زَرعَت ألغامًا في سفوح الجبال وفي الطُّرقات الوعرة، لمنع أفراد الأمن والجيش من بلوغ جُحورها. غير أنَّ هذه الألغام، تَقتل كلَّ شهر رُعاة الماشية وعاملات بسيطات في حقول الصنوبر، وجنودًا في الجيش يذودون عن أرض الوطن، وتُصيب عددًا آخر دون قتلهم، لكنها تشوِّهُهم إلى الأبد. وتقدِّر منظمةCare الأميركية، أن مليون شخص قُتلوا أو شُوّهوا، بسبب الألغام المُضادَّة للأفراد حتى الآن في العالم، وأن 300 ألف طفل يعانون إعاقات شديدة مِن جرَّاء بتر أطرافهم، بعد أن داسوا ألغامًا.
لم نكن نَجهل ما تفعله الألغام بالأطفال والمَدنيِّين عمومًا، من تشويهات وإعاقات جسدية ونُدوب في الأرواح، والأخيرة غير قابلة للشفاء السريع. لكن ابتسامة أحمد ورقصه الطويل برِجْله الصناعية، كانا مِرآة حقيقية، عاكسة لِمَا يصنعه الإنسان بأخيه، ولِمَا يسرقه من أطفال أبرياء، وللأبد. ومع فسحة الأمل والتفاؤل والفرح المقتنَص في عِزِّ المأساة، التي منحَنا إيّاها أحمد، برقصته التي أسرَت أفئدتنا؛ إلَّا أنها كانت أيضًا لَكْمة في وجوهنا، لنَعِي فَدْح القتل والعنف، اللَّذَين يرتكبهما الإنسان بلا تَوقُّف.
بعض الأنظمة في الشَّرق الأوسط والأدنى، تُبرِّر زراعة الألغام خارج الحروب، بمكافحة التهريب. لكن هذه الألغام تَقتل كلَّ من شاء القدَر أن يَدوسها، وتَبقى مزروعة عقودًا، حاصدة أرواحًا من كلِّ الأعمار. والأطفال يَملؤون الدنيا بالضحكات، يركضون في كلِّ الاتِّجاهات وهُم يمرحون، تأخذهم أقدامهم الصغيرة بعيدًا في الحقول، وقد يدوسون في لحظة ما لُغمًا، يقضي عليهم أو يقطع أطرافًا منهم. وأحمد، ربما كان يحْبُو، وربما كان في حضن كهل لحظة انفجر اللغم فيه. عاد لنا من تلك الأرض الملغومة، ليكُون شاهدًا حيًّا بعد خمس سنوات، على ما صنعه الإنسان.
في بعض الدول مثل العراق، لا يَحصل الطفل الذي يتجاوز سنُّه الـ 16، على مساعدة للحصول على طرَف صناعيّ، مع أنه يُعتبر طفلًا، في حين يَحصل البقية على تعويضات مالية للحصول على أطراف صناعية. أمّا الأُسَر، فتتحمل كُلفة التنقُّل بين قُراها ومراكز الرعاية الطبية، إلى جانب دفع ثمن الأدوية. ومنذ سنوات طويلة، قدَّم بعض مشاهير حول العالم أسماءهم، لرعاية حملات تَوعية، تُناشد العالم التوقيع على اتِّفاقية حظْر الألغام المضادَّة للأفراد، من بينهم الأميرة الراحلة ديانا، التي كانت الراعي الرسمي لمؤسسة "هالو ترست"، المختصة في إزالة الألغام الأرضية.
الطفل أحمد تَحوَّل إلى مِثال حيٍّ على حمْلة نزع الألغام في العالم، ويُحِيلنا رأسًا إلى آلاف الأطفال الضحايا، لنتخيَّل مَآسيهم. في اليمن، ثُلث ضحايا الألغام هم أطفال، وفي سوريا والعراق، يذهب الأطفال إلى مدارسهم على طرقات ملغومة.
رقص أحمد، فأبكى ضمائر كثيرة، تَشعر بأنها لم تُغيِّر الواقع "الملغوم"، مكتفيَةً بالتفرُّج عليه. أنتَ يا أحمد تَسِير مستقيمًا، ونحن نَعْرج. ضحكتك وشْمٌ في القلب.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.