شاءت الصدف أن أُضطرَّ إلى التنقل ما بين بغداد وإربيل لعمل ضروري، ما بعد الاستفتاء الذي أجرته حكومة إقليم كوردستان بيومين. وأثناء دخولنا إربيل في السيطرة الرئيسية (نقطة تفتيش حكومي)، لاحظتُ امتعاضًا كبيرًا من قبل أفرادها من خلال عبارات وتصرفات توحي بضجرهم. وللدخول إلى إربيل برًّا يستلزم حصولك على إقامة إذا لم تكن من الكورد، أو المسيحيين، أو الأيزيديين، ولهذا قام الشخص المسؤول بإرجاع من ليس لديه إقامة، ورَفَض عمل إقامات جديدة (للعرب). وأثناء عودتي لبغداد كانت السيطرات تسأل السائق: هل بينكم كوردي؟ فكان جوابه: لا. فأصابني الفضول لمعرفة ما هو الإجراء الذي سيتخذونه بخلاف ذلك، فسألت أحدهم فقال: "إذا أكُو كوردي يرجع!".
الغاية من ذكر هذه المواقف المؤسفة، هي تداعيات الأزمة السياسية الخطيرة التي يعيشها العراق بعد إجراء الاستفتاء الكوردي على الانفصال، وكيف ألقت هذه التداعيات بظلالها على الواقع العراقي، وما قد ينتج منه من آثار خطيرة في مجريات الحياة اليومية.
العراق كبلد معروف عبر تاريخه بتنامي خطاب الكراهية فيه بأشكال متعددة، تدعمه أحيانًا حكومات أو جهات ذات مصلحة، أو يكون تعبيرًا عن سلوك جمعي غير متَّزِن يفرض وجوده على الرأي العام، وزمن البعث مثال كبير لذلك، واستمر بأشكال مختلفة لغاية السقوط سنة (2003)، حيث تشكلت مفاهيم أخرى للكراهية، كان أولها اعتبار من يعمل مع الحكومة والجهات الأجنبية داعمًا للاحتلال الأميركي آنذاك. وبعد خروج الأمريكان اختفى هذا النوع من الخطاب، لتُصنع لنا في (2006-2007) خطابات كراهية من نوع آخر أكثر خطورة، وهي الكراهية المذهبية بين السنة والشيعة، التي عمل عدد من السياسيين ورجال الدين ومع الأسف بعض المثقفين على تغذيتها وانتشارها، فنتج منها تنامي روح الكراهية والعداء حتى وصلت إلى ذروتها باقتتال طائفي وصراعات مذهبية ذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء، وما زالت هذه الكراهية موجودة مع قلتها بشكل كبير بعد الانتصار على داعش. فسلوك داعش وتصرفاته التي بناها على أساس ديني متطرف، جعلت العراقيين يبغضون خطابات التطرف الديني والمذهبي لإيمانهم بأن داعش كان أحد نتاجاتها، بالإضافة إلى حاجة العراق إلى استقرار بعد المذابح والدماء التي أسيلت، والتي توزعت على العراقيين جميعًا دون استثناء؛ فخفّت بشكل جيد خطابات الكراهية الدينية والمذهبية، خاصة في ظل تبنِّي الدولة خطابًا وطنيًّا جامعًا، ودعوتها إلى تشريع قوانين لِلحدِّ من هذه الخطابات.
اليوم في ظل الأزمة ما بين بغداد وإربيل، تحوَّل الخلاف من خلاف سياسي دستوري إلى خلاف على أساس قومي، أو هكذا بدأ بعضهم يروج له من السياسيين ومدوِّني مواقع التواصل الاجتماعي. وإنَّ تحوُّل طبيعة الخلاف من سياسي دستوري إلى خلاف قومي، يعني أنه يتحول من النخبة السياسية إلى الشارع، وهذا يعني تأثيره في السلم الاجتماعي والحياة اليومية سواء في إربيل وبغداد، وتحديدًا في المناطق التي تحتوي تنوعًا ثريًّا من المذاهب والقوميات والأديان. فمثلًا بغداد معروفة بكونها مدينة متنوعة وتضم الكثير من العوائل الكوردية يتعايشون داخلها منذ عقود طويلة، لا بل يوجد أحياء كبيرة في بغداد باسم الكُرد كـ(حيّ الكورد) في مدينة الصدر، فضلًا عن وجود الكورد الفيليِّين (إثنية معروفة لها خصوصية متنوعة، فهم من الناحية القومية أكراد ومن الناحية الدينية مسلمون شيعة). في مناطق متعددة كالكفاح والصدرية وغيرهما. وكركوك المدينة المثيرة للجدل في طبيعة العلاقة بين بغداد وإربيل بالإضافة إلى الثروة النفطية فيها، هي غنية أيضًا بتنوعها القومي والديني حيث العرب والكورد والتركمان والكلدان يعيشون منذ عقود طويلة مع بعضهم بعضًا، وتتناول تقارير إعلامية اليوم بعض الانتهاكات فيها على أساس قومي.
إن خطورة المرحلة الحالية التي يمر بها العراق تستوجب من الجميع التحلي بقيم إنسانية عالية، والنظر إلى الإنسان كقيمة أساسية سابقة لأي اعتبار آخر (ديني، قومي، مذهبي، وطني)، وأخذ العبرة من دروس الماضي والحروب التي أَضْنت العراقيين وخلفت الكثير من الدماء والدمار في البنيان والإنسان، والعمل على إشاعة السلام ولغة الحوار بين الأطراف لحل النزاعات بدلًا من لغة الكراهية والحرب. إن الترويج لخطاب الكراهية القومي لا يختلف عن الترويج لخطاب الكراهية الديني والمذهبي، فآثارهما واحدة وإن اختلفت المسميات. ولهذا، لا بد للساسة والمدوِّنين على مواقع التواصل الاجتماعي من الابتعاد عن ذلك. فالكلمة رصاصة قد يذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في ما يجري وما سيجري، فالعراق فيه جراح ما زالت لم تلتئم.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.