لقد شهدَت فترةُ التحضير للانتخابات النيابية في لبنان، زحمة مرشّحين ممن يحملون شعار تمثيل "المجتمع المدني". كان قد سبق ذلك بحوالي السنتين تَظاهراتٌ مناهضة لسياسة الحكومة، خاصة في المجال البيئي، ناشدَت التغييرَ الجزئي أو الكلي للنظام القائم، وعُرفت بـ"الحراك المدني". وأيضًا شهدَت ساحاتُ بغداد في الفترة الماضية تظاهرات واعتصامات مماثلة اتصفت بالتيار المدني، وحشودُ "الربيع العربي" ليست غريبة بدورها عن هذا التوصيف.
لكن، مع اقتراب مواعيد الانتخابات في لبنان والعراق، يزداد التشاؤم بين عامة الناس وخاصة الشباب، بإمكانية نجاح مُمثِّلي المجتمع المدني في وصولهم إلى السلطة، ومِن ثَمَّ إحداث التغيير السياسي المنتظر. تختلف أسباب هذا التشاؤم، ومن بينها تشتُّت القوى التغييرية، وعدم قدرتها على الائتلاف حول أهداف ولوائح مشتركة، والنقص في الخبرة في التعامل مع الناخبين الذين هم من خارج صفوفهم المعتادة، والحذر المفرط من تجيير الدعم لوجوه قيادية جامعة، وتَردُّد هذه الوجوه بدورها في أخذ زمام المبادرة وطرح ذاتها بنَفَس قِياديٍّ تعبَوِيّ. ولكن، برأيي يكمن السبب الأهم لِتشتُّت القوّة التغييرية وفقدان فعاليتها في الضبابية، إن لم نقل الالتباس القائم حول علاقة المجتمع المدني ورُوَّادِه بالسياسة.
يُعرف تقليدًا المجتمعُ المدني بتمايزه عن المجتمع السياسي، الذي يشمل السلطة بمختلف مندرجاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، والأحزاب التي تهدف إلى الوصول إليها. وأيضًا يتمايز المجتمع المدني عن مؤسسات الدولة العامة، من أمنيّة وإدارية ومحليّة. لذلك، يُخطئ بعضهم في تعريفهم للمجتمع المدني، بوضع تعبير "المدني" في مقابل ما هو "عسكري" أو "ديني"، في حين المقصود في المفهوم هو تأكيد التمايز عمَّا هو "سياسي"، على الرغم من اهتمام المجتمع المدني بقضايا مرتبطة بالحياة الاجتماعية المشتركة والشأن العام. الغاية من تأكيد هذا التمايز بين "المدني" و"السياسي"، ليس حصر "المجتمع المدني" في إطار يبعده عن الشأن العام، بل الأحرى تبيان حدود السلطة السياسية، وتأكيد عدم احتكارها للمسؤولية العامة. فهي وإن كانت منبثقة من الشعب وممثِّلة له عبر الآليات الديمقراطية، لا تختصر الحياة العامة، ولا يُناط بها وَحْدَها تحقيقُ الخير العام. فالشعب الذي يختار من يمثِّله في السلطة السياسية، يبقى هو مسؤولًا عن خيره وخير مجتمعه، ويسعى بدوره إلى تحقيق ذلك وتعزيز فُرَصه، بموازاة عمل السطة السياسية، من خلال المجتمع المدني.
إنّ السلطة السياسية تقوم عادة على أساس التنافس الديمقراطي، ولكنها تَحكم باسم كافة الشعب وتعمل لخيره، وإن لم تنتخبها سوى فئة منه. أما خياراتها التي تَطُول الجميع، فتتحكم فيها قناعات الأكثرية الفائزة، في حين يقوم المجتمع المدني بجمعياته وحركاته النضالية على أساس الائتلاف الطوعي بين مجموعة من المواطنين، لمناصرتهم قضية معيّنة، والعمل من أجل تحقيقها خدمة للجميع.
يمكن في الواقع الحديث بخمسة قطاعات متمايزة ومتقاطعة في آن، تُشكِّل الديناميَّة المؤسساتية للحياة العامة، ألا وهي: المجتمع السياسي الذي يرتبط بالقطاع العام، والمجتمع المدني مع المجتمع الأهلي، والقطاع الخاص الذي يمثّل قطاع الأعمال الربحية. تُشكّل هذه القطاعات مثلّثًا ضروريًّا لنجاح الحياة العامة والتنمية المجتمعية، ولا بدّ اليوم أمام التحدِّيَات الكبيرة السياسية والاقتصادية والتنموية التي تواجه العديد من المجتمعات العربية، من السعي لتحقيق هذه الشراكة المثلّثة بين القطاع العام والقطاع الخاص والقطاع المدني، بشكل يكفل الاستفادة من كافة موارد المجتمع، تحقيقًا للتنمية المستدامة، أساسِ الصالح العام.
أمَّا الإشكال، فيكمن في انتفاء هذا "التمايز-التكامل"، بسبب سعي بعضهم للوصول إلى السلطة السياسية باسم "المجتمع المدني". وأيضًا نقع في إشكال آخر عندما يتخلّى قِسم من "المجتمع المدني" عن دوره في التفاعل والتأثير في الشأن العام والقرار السياسي، ويَحصر اهتمامه في التغيير في الوقائع دون التعرّض للسياسات العامة المؤثّرة فيها. والأسوأ عندما يكون "المجتمع المدني" ملحقًا بالسلطة السياسية، فيشكّل امتدادًا غير مباشر لها، يأتمر بها وينفّذ أجنداتها، وكأنّه ذراعها الاجتماعي أو الأمني "المرِن". ففي الإشكالات الثلاثة أخطاء خطيرة، تضرب استقلاليّة "المجتمع المدني" الضرورية، وتُشوّه طبيعته، إلى درجة أنها ترقى إلى مستوى "الخطيئة السياسية".
مجتمعاتنا العربية هي في أمسِّ الحاجة إلى فرز نُخَب سياسية جديدة، تأتي من خارج التقليد السياسي المضروب بأنواع شتى من الفساد والتبعية والتوريث. ولا أختلف مع القائلين في إمكانية مجيء قِسم من هؤلاء من المجتمع المدني، مستندين إلى خبرتهم هناك في التعاطي بالشأن العام، لكن هذه الخلفية لا تصلح لكي تكون قاعدة للعمل السياسي وللتنافس باسمه. فلا يمكن للمجتمع المدني أن يكون له مرشحون للسلطة السياسية، بل يمكن لناشطين من المجتمع المدني أن "ينتقلوا" للعمل السياسي، لكن باسم أجندات وتكتلات سياسية، لا مدنية. فكما لا يجب أن يبتلع المجتمع السياسي المجتمع المدني ويجيّر طاقاته لحساباته السياسية، لا يجوز أن تتحول السلطة السياسية إلى منتدى للمجتمع المدني. فالتمايز ضروري بين الاثنين لكي يبقى التكامل ممكنًا، والتعاون مثمرًا، وحتى يبقى الصراع ضابطًا لانحرافات السلطة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.