في ضوء انقسام المواطنين العراقيين في الحاضر، هل يصبح للماضي أهمية بوصفه المشترَك الوحيد بين العراقيين؟ خطرَ هذا السؤال على بالي بعد أن راقبتُ ردود الفعل الشعبية، على سياسة تنظيم داعش في تدمير التراث التعددي، في المناطق التي احتلَّها في العراق، ومِن قَبْلها في سوريا. وفيما يتعلق بالسياق العراقي، ارتكب التنظيم المتطرف "إبادةً ثقافية"، من خلال تفجير الكنائس والأديرة والمساجد التاريخية والمعابد الأـيزيدية، ونهب الآثار والمخطوطات التاريخية النادرة، إبادةً استهدفت القضاء على صلة الناس بماضيهم وذاكرتهم. وبفعله هذا، يكون التنظيم المتطرف قد نبَّه -من دون قصد- على أهمية "الماضي" كمشترَك بين العراقيين، وارتباط وجود العراق وهويته ببقاء تراثه التعددي.
إنِ اخترتُ مثالًا واحدًا ذا دلالة، فسوف أشدِّد على مشهد تدمير متحف المَوصِل، المحفور بقوة داخل ذاكرة الناس، إذ حملَت المشاعرَ الجيّاشة آلافٌ من الناس، وحصل هياج جماعي أمام شاشات التلفاز. سجَّلَت تلك اللحظة وعيًا جمْعِيًّا بأهمية الماضي، بالنسبة إلى الناس الذين حطّمهم الحاضر. عراقيون من قوميات مختلفة: تركمان وأكراد وعرب وآشوريون وشبك وفيليّون، ينتمون إلى أديان مختلفة: مسلمين ومسيحيين ويهود وأيزيديِّين ومندائيِّين وكاكائيِّين وبهائيين وزرادشتيين، أظهروا ردود فعل دفاعيّة لحماية هويتهم المشتركة، في لحظة ظلام أيقظتها داعش.
كنتُ أُلاحظ وجوه الناس تتجعد بغضب عميق، وتتلمَّس تدفُّق إحساس جماعي عميق بالفقدان، مِن جرَّاء تهديد تراث نينوى الأَلْفي بالإبادة. لذا، أعتقد أن إعادة بناء هذا التراث، الذي لا يستثني من حيث المبدأ أيَّ جماعة دينية أو عِرقية، سيمثِّل أكثر فأكثر، نقطة انطلاق لمشروع بناء "مواطَنة حاضنة للتنوع الثقافي"، تقُوم على أساس ميثولوجي عظيم، وعلى الشعور بالفخر اللازم لابتكار هوية جماعية مشترَكة، وعلى تَخيُّل الأمّة. وأقصد بذلك بالتحديد شعور الفخر بتراث ميزوبوتاميا (بلاد ما بين النَّهرَين) الغني.
في العقود الماضية، استَخدم نظامُ البعث الماضيَ القديمَ لميزوبوتاميا، لإضفاء شرعية يفتقر إليها، ولتصوير سياسات الحاضر الأيديولوجية بوصفها امتدادًا للحضارات القديمة. وهو ما يُعبِّر عنه شعار مهرجان بابل الدولي: "مِن نبوخذ نصّر إلى صدّام حسين: بابل تنهض من جديد". لكن الشعور بالماضي مختلف اليوم؛ إذ ينبع من إحساس الناس وحاجتهم إلى التضامن، وليس من هندسة سياسية فوقية، أو توظيف سياسي برغماتي للذاكرة الجماعية. ومع أن هذا الشعور الوطني الناهض يُعزِّز "فكرة"، يجري اليوم تجنُّبُها من قِبَل نُخب الإسلام السياسي، بعد أن جرى استخدامها لإضفاء شرعية على الأنظمة السياسية المتعاقبة في العراق بين عامَي 1921-2003؛ فإن هذه المخاوف من ثراء الماضي البعيد، يمكن هزْمُها من خلال سياسات، تَعُدُّ هذا الماضي مَصدر غنًى للحاضر، وليس مَصدر تهديد له، وعلى نحو يتجاوز بشكل خاص المشاعر السلبية مِمَّن عدَّهُ تهديدًا للهوية الإسلامية، بما لهذا التراث التعددي ما قبل الإسلامي من الناحية الزمنية.
كان هذا الشعور راسخًا، حتى قبل احتلال داعش لمناطق في العراق بسنوات. ففي القاعة الدستورية للبرلمان الاتِّحادي عام 2011 ، قُدِّمَت مبادئ عامة لمقترح "قانون تعزيز التنوع في العراق"، كنتُ أعمل على كتابة مسَوَّدة له، ثم وجدت نفسي أوجِّه خطابًا إلى أعضاء البرلمان بالقول: "إذا كانت شجرة العراق مُسْلمة، فإن جذورها مسيحية. هل يمكن لشجرة أن تنمو من دون جذورها؟". وكان الهدف جذب الانتباه لأهمية التنوع في أعقاب الأحداث الدامية لاقتحام كنيسة "سيدة النجاة للسريان الكاثوليك" في بغداد، من قِبَل تنظيم القاعدة في 31-10-2010، والتي خلَّفَت عشرات القتلى من المدنيِّين الأبرياء. وسرعان ما ارتفعت الأيدي تطلب التعقيب على مداخلتي. فعقَّب رئيس الطائفة المندائية بالقول: إن جذور هذه الشجرة مندائية أيضًا. وبالمِثل أعلن ممثِّل الأيزيديِّين أنَّ جذورها أيزيدية.
أعتقد أن تأكيد خطاب الأصالة في هذه التعقيبات، وما تعكسه من مشاعر الفخر بماضٍ مشترَك رافِدَيْنِيّ، ما قبل إسلامي، يشكِّل ميراثًا حضاريًّا للجماعات المختلفة، سيكُون نقطة انطلاق لبناء مواطَنة حاضنة للتنوع الثقافي، من خلال استحضار الماضي بطريقة خلّاقة. تنشأ الهوية الجماعية (الأمّة، الجماعة المشتركة) في العقل، وهي ليست تمثيلًا لجماعة سلالية أو فئة اجتماعية. فهي على حدِّ العبارة الشهيرة لبندكت اندرسون Benedict Anderson "مجتمعات متخيلة Imagined Communities"، وهي منذ لحظة احتلال داعش لمحافظة نينوى، تبدو بالنسبة إليَّ طريقة لتخيُّل هوية جامعة، بواسطة طريقة معيَّنة لفهم الماضي واستحضاره.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.