"أنا ابنُ مُهاجِرين مِصريِّين، جزءٌ من سيرتي يُدوَّن الآن… أنا ممتنٌّ لكلِّ مَن آمن بي في تلك اللحظة، التي سأعتزُّ بها طوال حياتي". بهذه العبارات حيَّا الممثِّلُ الأميركي من أصول مِصريّة رامي مالك، لحظة فوزه بجائزة الأوسكار، جميعَ من آمن بموهبته، ومنحَه فرصةَ إثبات قدراته في عالم هولِيوُود الشرس. هو ابن المِصريِّين المهاجرين إلى الولايات المتحدة، وجد في مَوطنه الذي وُلد فيه (أميركا)، حاضنًا منحه جناحَين ليُحلِّق عاليًا في سماء الإبداع.
قصة نجاح رامي مالك تَخرج من عالم هولِيوُود، ومن حفل الأوسكار المملوء بالبريق، إلى الكفاح الرمادي اليومي لملايين المهاجرين حوْل العالم، لتُلْهم صبرَهم مَزيدًا من الكدّ والثقة والسعي في دروب العمل.
قصة نجاح الممثِّل الشاب مِثل قصص نجاح مهاجرين آخرين، تنتصر فيها المثابرة على التمييز، بما يمنح الدليل مرة أخرى على أن الهجرة ليست سرَطانًا، ولا آفةً تُهدِّد الأمن القومي، مِثلما يروِّج بعض القادة المُعادِين للهجرة، وعلى رأسهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي ربما تابع كملايين الأميركيِّين لحظة اعتلاء رامي الرُّكْح (السَّاحة)، وشاهد ذلك اللمعان في عينَي مَن كسَب معركة التميُّز، وهو يخبرنا لحظة مَجْده عن أبوَيْه المهاجِرَين. غير أن طريق الهجرة ليست مُعبَّدة دومًا. طريق الهجرة ملتوية وَعِرة، يصاب فيها المهاجر بالدُّوَار مِرارًا قبل بلوغ النجاح، أو لِنَقُل قبل الإقرار بأن نجاحه مستحَقّ.
الحُلم الأميركي لا يُراوِد جميع الخلق، ولا يراود جميع الساعين للهجرة. غير أنه صار كابوس الآلاف؛ بعد قرار ترامب العام الماضي تغيير قوانين الهجرة، لتقليل عدد مَن يدخلون الولايات المتحدة. فشملت سياسته فرْضَ قيود على دخول المسلمين من دول إسلامية وعربية عديدة، ونشْرَ قوّات عسكرية لتأمين الحدود الأميركية المكسيكية. وما زال الرأي العامّ الدُّوَلي يحفظ في ذاكرته الجماعية، قيام إدارة ترامب بفصل 2600 طفل عن أُسَرهم من المهاجرين غير الشرعيِّين، ووضْعِهم في أقفاص منفصلة. وأيضًا لا يزال الإصرار على بناء جداره العازل على حدود المكسيك، بقيمة 8 مليارات دولار، وهو ما يرفضه الديمقراطيون. لكن هذا التعنُّت غَرَّم الإدارة الأميركية شللًا فدراليًّا، جعل ترامب يعلن حالة الطوارئ. كلُّ هذا بسبب هاجسِه "القومي" المُعادي للهجرة.
قصص المهاجرين التي تتحوَّل إلى مجرد أرقام في دراسات المنظمة العالمية للهجرة، أو المنظَّمات الحقوقية المَعْنيّة بالانتهاكات، التي تَطُول المهاجرين الشرعيِّين وغير الشرعيِّين - هي قصص ذواتٍ إنسانية نجحت أو فشلت، حملت معاناة البدايات الصعبة والكفاح اليومي، والوَحْدة خلف جدران الغُربة حتى لأكثر المهاجرين نجاحًا. يباغتك هذا الشعور بأنك مُجتثٌّ من جذورك، وغُرسْتَ في أرض جديدة، حتى إنْ كانت حُلمك. فلحظة يتحقَّق حُلم بلوغِك وطنَك الجديد، يصبح لِزامًا عليك أن تتأقلم، أن تَبني حياتك حَجرًا حَجرًا. وهذه القصص تصبح أكثر وحدانية وتراجيديَّة بالنسبة إلى اللاجئين، الذين تركوا أوطانهم بسبب النِّزاعات المسلَّحة، أو لمُعارضتهم الأنظمة القائمة. وهنا، يصبح المَهجر صِمَام أمان لا هدفًا في حدِّ ذاته.
تختلف تجارب المهاجرين باختلاف الشُّخوص، وباختلاف وجهات الهجرة: أنظمتها، ومجتمعاتها، ودرجات احتوائها المهاجرين، ودرجات قدرة كلِّ مهاجر على الصمود. وهنا أيضًا، تُطرح مسألةُ الاندماج الثقافي. وهي قضية شائكة أخرى، تتداخل فيها الهُويّات والثقافات. بعضهم يرفض حتى فكرة الاندماج، لأنها تَعني بالنسبة إليه التخلِّي عن ثقافته الأصلية، لمصلحة ثقافة مُكتسَبة.
المتجوِّل في مُدن ألمانيَّة على سبيل المثال، سيلاحِظ تجمُّعاتٍ تُركيَّةً في صَمِيمها، شكلًا وتقاليدَ وممارسةً للحياة اليومية. لكن سكَّان هذه التجمُّعات ألمانٌ منذ أربعة أجيال، قدّم فيها أجدادُهم وآباؤهم خِدْمات كبيرة للاقتصاد الألماني، وهو أكثر اقتصاديات العالم قوّة.
نَعُود إلى قصة نجاح رامي مالك، وما كرَّره ذلك الممثِّل من فخره فَوْر فوزه وقَبْله بمدة طويلة، بأنه ابن مِصر وثقافتها. فهذا الإقرار بأصوله لا ينزع عنه أميركيَّته، ولا ينتقص من وطنيّتِه، إلَّا أنَّ أصواتًا عربية ظهرَت بعد فوزه، تُطالِب بطمس هذه الهُويّة المِصريّة، عند الحديث بفوزه. هذا ما يُعيدنا إلى الإشكالية المعقَّدة عن الهُويّة، حتى لو كان حاملها مُدركًا لتنوُّعها، فخورًا بها، مُستغلًّا لثَرائها في نجاحه المِهنيّ واليومي. إلَّا أنَّ طَيفًا بعيدًا عنه، يُصرُّ على إسقاط مَوطن أبوَيْه؛ في محاولةٍ لإعلاء هُويَّةٍ، واحتقارِ أخرى.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.