اِحتفلنا أمس الاثنين 14 كانون الثاني/يناير، بالذكرى الثامنة للثورة التونسية. وككُلّ عام، تتكرر على مسامعي أسئلة ثابتة: ماذا جنيتم من الثورة؟ هل كانت تونس أفضل في عهد ما قبل الثورة؟ هل تندمون على الديمقراطية التي أنتجت –برأيكم- الكساد الاقتصادي؟
ليس انتمائي إلى تونس، ما يجعلني أدافع باستماتة عن الثورة. فلا أبكي على عهد ما قبل الثورة، مهْما حاولَت المؤشرات الاقتصادية العودة بِنَا حصرًا إلى زمنه، لنقارن بين معدّلات النمو حينها، والآن. وليس إيماني العميق بمشروعية قيم الديمقراطية والحريّة والكرامة الإنسانية، ما يجعلني أكرِّر أن الديمقراطية ليست سببَ الكساد الاقتصادي، ولا سبب فقدان الأمن، مثلما يروِّج أعداء الديمقراطية والمتوجسون من الحرية. باختصار، تونس اليوم، هي أفضل مما كانت في عهد ما قبل الثورة. وسأشرح لماذا وكيف.
في عهد ما قبل الثورة، كانت نِسَب النمو أفضل، لا بسبب الحكم الديمقراطي ومناخ الحريات، بل كانت تونس مقيّدة برغبات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، دون أخذهما بعين الاعتبار لمناخ الفساد السائد قبل الثورة، والذي كان يَمنح المقرَّبين من السلطة والمَحظيِّين امتيازات ضريبية. وكان النظام يغيِّر قوانين الاستثمار باستمرار (غيَّرها 25 مرة خلال عشر سنوات)، بما يلائم مصالح المقرَّبين من السلطة. وهكذا تمكَّنوا من وضع أيديهم على 21% من أرباح شركات القطاع الخاص (أرقام البنك الدولي عام 2011)، وتمكَّن النظام من الاستيلاء على ما بين 15 و20 مليار دولار خلال سنوات حكمه الـ 23. غير أني لا أُنكر أن نِسَب النمو اليوم، تقلَّصَت بسبب تَراجُع القطاع الزراعي، وتقلُّص القيمة المُضافة للصناعات التحويلية، وشلل قطاع الفوسفاط وارتفاع الدَّين العامّ الذي يمثِّل 70% من الناتج الداخلي المحلي. لكنّ الديون التي تركها نظام ما قبل الثورة، ما زالت المجموعة الوطنية تدفع ثمنها، دَيْن يولِّد دَيْنًا، وهكذا.
أما عن "الاستقرار" في عهد ما قبل الثورة، فكان كلمةً يكرِّرها الغرب، ويعني بها استقرار الحُكم، أي بقاء شخص واحد في كرسي الحكم ربع قرن، نتيجة استبعاد المعارضة الحقيقية في الانتخابات، وبسط سلطة الحزب الواحد، وتقديمه للشعب وللرأي العامّ الدولي كعنصر "استقرار"، في حين لو تَكرَّر السيناريو في دولة ما في الغرب، لسَمَّوا ذلك "ديكتاتورية". والغرب لم "يتفطَّن" لِديكتاتورية ما قبل الثورة إلّا حين سقطت وفرَض الشعب إرادته، مع عدم انتباه العالم أجمع لِما يحدث في تونس، إلّا قبل يومين من سقوط ابن علي. وكان مصطلح الربيع العربي لم يولَد بعد.
الاستقرار ليس في احتكار حاكم واحد جميعَ السلطات، ولا في بقائه في الحكم ربع قرن، ولا في مصادرتِه لحرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة، ولا في نهب الثروة الوطنية، ولا في تعقُّب معارضيه. أما الاحتجاج بأنّ تَكرار العمليات الإرهابية يدلُّ على "سوء الديمقراطية"، وكأنّ الإرهاب نتيجة "التسيُّب" الذي تخلِّفه الديمقراطية، فهذا أيضًا مردود عليه؛ بدليل أن الإرهاب زاد في السنوات الأخيرة، ليس فقط في دول الربيع العربي، بل كذلك في الدول العربية التي لم تشارك في الثورات، وفي الدول الغربية كذلك، وفي روسيا وفي دول آسيوية وفي أستراليا وفي الأميركيَّتَين. لا توجد بقعة في الأرض لم يضربها الإرهاب. إنها ظاهرة عالمية، ليست الحرية سببها، بل الحرية ضحيَّتها؛ لأن جميع المتربِّصين بالحرية يقدّمون فزّاعة الإرهاب على عروس الحرية، لترهيب الشعوب من الانعتاق من أغلال الاستبداد.
إذًا، ماذا جنينا في تونس من سنوات الثورة الثماني؟ جنينا الكثير من الحرية، سقفًا عاليًا فاق حتى أكثر توقعاتي ورديَّةً، في أحلام اليقظة قبل الثورة. جنينا حرية تعبير، وبروز مفهوم المواطَنة بعد أن تَراجَع مفهوم التبعية الحزبية وتأليه الحاكم، جنينا حقوقًا جديدة تَضْمن المحاسبة والعدالة والمساواة، وتُقرُّ للمرأة والطفل حقوقًا جديدة.
محاولة شيطنة ثورة تونس، محاولة فاشلة، هدفها معاقبة كلِّ المطالبين بحفظ كرامة الإنسان في كلِّ مكان، ووقف التعذيب في الزنزانات وخارجها، ومصادرة حقِّ الشعب في محاسبة حاكمه.
تبدو الثماني سنوات مِن الثورة طويلة، مُضْنية، وقطفُ ثمارها تأخَّر. لكن قراءة متأنِّيَة للتاريخ، تجعل من تلك السنوات بكل صعوباتها ضرورةً، قبل بلوغ درجة وعيٍ جماعيٍّ كفيلة بالعبور نحو غد أفضل.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.