هي أكثرُ تفهُّمًا من أُمٍّ، وأوسع صدرًا من أخت، وأكثر حكمة من "كبير العَيلة". كثيرًا ما أشبِّهها بكتاب آسِر لا نرغب في تركه. لا تُجامِلُ وقت النصح، ولا تقسو وقت الضعف، تَحنو وقت الشدة، وتَحْزُم وقت اللزوم. نعم، هي كلُّ هذا. وكم أنا مَدينة لله عليها!
هي صديقتي، تلك التي وقَعتُ عليها على حين غفلة من القدر أيّام غُربتي. فصارت لي وطنًا وبيتًا وأُسرة، وخارطةَ أمان واسعة، في عالَم مسكون بالرَّيبة والحروب والخديعة.
كلَّما تحدَّثَت النساء بخداع النساء، ابتسمْتُ في صمت، وكلَّما قال أحدهم: "الصداقة بين النساء مستحيلة"، استحضرْتُ بفخر المُمْكنَ كلَّه، الذي كان بحضرتها. الصداقة بين امرأة وأخرى حقيقة وواقع، والحديث باستحالة وقوعها –بسبب احتمالات "الغيرة" أو "المنافسة" أو "الأنانيَّة"-، يُشْبه تمامًا تَوجُّس رجُل من رجل، يعتقد أنه بدوره يَغار منه أو ينافسه. فما الذي يجعل الصداقة بين النساء من نسج الخيال بالنسبة إلى بعضهم، ومَحلَّ رَيبة في ظنِّ كثيرين؟ هو قطعًا الشكُّ في قدرة الإنسان على الوفاء والعطاء، وهذا أمر مُغاير للواقع. وهنا، أريد التحدُّث بتجربتي.
عرفْتُ صديقتي "نسرين" في الغُربة قبل سنوات. وهي فلسطينية أميركية، أُمٌّ لثلاثة أولاد، جامعيّة ناجحة جدًّا في عملها، ولدَيْها مسؤوليات جِسام إزاء الأسرة المُوَسَّعة. ومع تَعقُّد مَهامِّها ومسؤولياتها منحَتني وقتًا كثيرًا، وصداقةً أَسيرُ بها اليوم وسط الخلق بفخر. لا أعرف أيَّ نجم ساطع في السماء مررتُ تحته، حين وصلتُ أرض الغربة. فنسج لي القدر طالعًا جميلًا، ومنحني هدية العمر: صديقة.
وهَبَتني صديقتي السكينةَ والدَّعمَ والحنان، والكثير الكثير من الوقت، لتَسمعني وتَنصحني وتشُدَّ أزري. منحَتني أيضًا لحظات محبة كبيرة مع أطفالها، وسمحَت لي بأن أقترب من مملكة الأم. فصار أطفالها جزءًا من كياني، منحوني بدورهم محبة وساعات ضحك طويلة، ولحظات شقاوة ظننْتُ أنني كَبِرتُ عليها.
على أرصفة تلك المدينة البعيدة، تحوَّلَت الغربة بفضلها إلى مكان كثير الأُلفة، بل أكثرَ أُلفة. وبعد أن كنتُ أخشى حلول أيام العُطَل الكئيبة، صرتُ أنتظرها بفارغ الصبر، لأنها تعني لي لقاءات عائلية. فأنا فرد من أسرتها. نعم، هكذا صِرت، تعلَّمتُ منها كيف أُحوّل الصعاب إلى نقاط قوة، وأعيد تدوير التجارب الفاشلة، لكسب منطلقات أبدأُ منها من جديد.
معًا، ضحكنا كثيرًا، وبكينا. وحين كانت الظروف تَفرض ذلك، كانت الحواسُّ تَفيض معها دون تَوجُّس، ولا خوف من تقييم الآخر لنا. في حضرتها كلُّ شيء كان انسيابيًّا، لأنه كان صادقًا وواثقًا. كنتُ أحمل إليها انتصاراتي؛ فتقفز فرحًا وتحتضنُنِي بحنان أُمٍّ وهي تُخفي دمعة، ثم تضحك بفخر صديقة، وتُعاود معانقتي من جديد. وحين تَضيق الآفاق، كانت تفتح ذراعيها بالعطاء والحُنوِّ والتشجيع، وكانت مَصدر إلهام لي، ولا تزال.
تعلَّمتُ منها التواضع والدِّقَّة، والسعي للتعلم مدى الحياة، كما تعلَّمتُ الإصغاء إلى الصمت حين يجب ذلك. تعلَّمتُ الكثير منها، لكني لم أُحْسن –يا للأسف- تحضير طبق "مقلوبة" لذيذ، مِثل الذي كانت تُعدُّه.
الصداقة بين مرأة ومرأة، أجملُ ما يحدث في عُمر امرأة. إنها هبة من السماء، تَنزل على رأسِكِ على حين غفلة. بعدها تتغير حياتُكِ إلى الأبد. تلك الصداقة فيها الكثير من التضامن والتفهم والصدق، والنصح أيضًا. قد تختلف التجارب باختلاف الأشخاص، وقد تنجح هنا وتُخفق هناك؛ لا بسبب "عُقَد النساء" تجاه بعضهن -كما يزعم بعضهم-، بل بسبب اختلاف الطبيعة البشرية. وهذا سبب فشل علاقات أخرى، كالصداقة بين رجل ورجل، وانفصال حبيب عن محبوبه، أو طلاق زوجَين، أو تَخلِّي أخ عن أخيه. كلُّ هذه العلاقات قد تتمزق؛ لِوَهنٍ أصاب أحد الطرفَين. فيَكُون الانفصال أو الخديعة.
برأيي، الصداقة هي العلاقة الإنسانية الوحيدة، التي لا تحمل نفعيَّة، بعكس بقية العلاقات البشرية، حتى إنَّ الأمومة فيها شيء من النفعيَّة. فذلك الشعور الغريزي الذي يدفع الأمَّ إلى حماية أبنائها، وتلك المحبة التي تَفيض منها باتِّجاههم، مَحكومان بالغريزة، وفيهما نفعيّة. كذلك الحُبُّ بين الحبيب ومحبوبه، فيه نفعيَّة الشعور بالامتلاء والتملُّك أحيانًا. أمَّا الصداقة، فهي عطاء صَدوق خالص، وتفرُّغٌ لمنح ذلك الشخص الذي لا تربطنا به علاقة دموية ولا زوجية ولا نفعيّة مادِّيّة، مساحةَ محبَّةٍ كبيرة، وثقة ووقتًا ثمينًا أيضًا.
أنا المحظوظةُ بصديقتي، أكتُب لجميع النساء عنها، وإليها أُهدي مقالي هذا. أنتِ أجملُ ما حدَث لي يا "نسرين".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.