في الأسبوع الفائت أيضًا، شاع في وسائل التواصل الاجتماعي كلمةٌ للشيخ "أزهر ناصر"، وهو شيخ مقيم في الولايات المتحدة، جاء فيها: "لا تقولوا أبدًا لشخص مكتئب أن يداوي اكتئابه بقراءة القرآن. عندما يَكسر أحدُهم رِجْله، لا أحد يقول له اقرأ القرآن، ولا تذهب إلى طبيب". تأتي هذه الكلمة للتوعية بالأمراض النفسية، ولإعطائها حقَّها؛ ذلك لأن مجتمعاتنا تتعامل مع موضوع الصحة النفسية إمَّا بالاستخفاف، وإما بالوصم. فقد يعاني أحدُهم اكتئابًا، ويرى مَن حوله يقول له: "كبّر عقلك"، أو "انظُر إلى الحياة نظرة إيجابية"، أو "انظُر إلى من لا يَملك بيتًا أو رِجلًا أو ...أو... فهو أسوأ حالًا منك"؛ غير واعين أن كلّ هذه الأقوال قد تجرح الشخص المكتئب، وأن قلبه ينزف أصلًا لكلِّ شخص في حالة سيِّئة في العالم، وأن حاله لن تصبح أفضل إنْ قارن نفسه بمن هو أسوأ منه حالًا.
أمّا من ناحية الوَصْم، فهذا يظهر في الشتائم، فنقول مثلًا عن شخص لا نفهم تصرفاته: "هذا مريض نفسيًّا"، مثلما نقول: "هذا مُعاق"، وكأن الإعاقة والمرض النفسي يجعلان من الأشخاص فئات معيّنة في المجتمع، بعيدة كلّ البعد عن الإنسان "الطبيعي". يأتي اليوم العالمي للصحية النفسية، لتأكيد أن الصحة النفسية هي كالصحة الجسدية، أي أن كلّ إنسان في حياته، معرّض لمرض أو أكثر في جسده أو نفسيّته. وأيضًا للتوعية بأن هناك أمراضًا نفسية لها علاجها. فمثلًا قد تأتي الأمراض من أسباب سيكولوجية، يكون علاجها بالكلام مع متخصِّص؛ أو من أسباب فيزيولوجية كنقص كيميائي في الدماغ، فيعالَج بالأدوية. وهناك أمراض أخرى مُزمنة، تمامًا كأمراض جسديّة مزمنة، يتعلّم الشخص التعامل معها، وتنظيم حياته فيها، آخذًا إيّاها والقيود التي توضع عليه بعين الاعتبار، مع كلّ ما يتطلّبه ذلك من شجاعة. أيضًا تقوم الحملات التَّوعويّة في اليوم العالمي، بالتذكير بأن كلّ فرد، قد يشعر في حياته بعارض أو أكثر لأحد الأمراض النفسية. فمَن مِنّا لم يمرّ بحال من الاكتئاب، أو بفقدان الثقة بالحياة وبالناس، أو بحال من الرِّيبة أو الرُّهاب، أو بتقلُّب مزاج بشكل ملحوظ، أو بحال فقدان السيطرة على الأفكار السلبية؟! فالانتباه لذلك يَكسر الحاجز بين الشخص المُعافَى، والشخص الذي يعاني مرضًا نفسيًّا، ويسمح بفتح الباب أمام محاولة الفهم والتقبُّل، لِما يمرُّ به شخص يعاني مرضًا نفسيًّا، دون وَصْمه أو النظر إليه من خلال صورة نمطيَّة. بعد أن انفتح العالم على التنوع العِرقي والإثني والديني، والتنوع المرتبط بالنوع الاجتماعي، والتنوع المرتبط بالإعاقتَين الفكرية والجسدية، لحَظ العالم التنوع في الصحة النفسيّة. فعندما ظهر هذا المفهوم ، كان مُتمحورًا حول "التَّوحُّد"، واعتباره اختلافًا عصبيًّا نفسيًّا. إلا أنه اليوم تَوسّع، ليَلحظ جميع حالات الصحة النفسية. في مفهوم التنوع العصبي-النفسي، تكون الحالات العصبية-النفسية المختلفة، نتيجة لاختلافاتٍ طبيعية في الجينوم البشري. مفهومٌ كهذا، باحتضانه للحالات النفسية والعصبية كجزء طبيعي من الحياة البشرية، يخفِّف عن الإنسان وطأة محاولة ملاءَمة قالبٍ أو صورة لِما هو "طبيعي"؛ إذ يعتبر أن جميع الأمراض النفسية، هي جزء من الطبيعة الإنسانية، وهي بذلك أيضًا طبيعيّة. مفهومٌ كهذا، يفتح الباب أيضًا؛ لنَنظر جميعًا كيف نتعلّم من الأمراض النفسية، إذ إنّ فهمها يعمّق فهمنا لمفهوم الإنسان، ولما يَلِج في داخله، ولمحدوديّته وقدرته على المثابرة، في آن. لذا، نحن في حاجة اليوم إلى نُقلة ذهنية واجتماعية، تقودنا من الإقصاء للأمراض النفسية ولِمن يعانيها، إلى تقبُّلها والتقرُّب من أصحابها، وذلك في كافّة مجالات الحياة مثل: العمل، والمدرسة، والجامعة، والبيت، حتى ضِمن الجماعات الدينية. فالمرض النفسي هو أمر طبيعي، قد يحصل مع أيِّ شخص، وليس معيارًا لضعفه أو لنقص في إيمانه. ولأجل هذه النُّقلة في الذِّهنيّة، ظهر في العالَم "الأنغلو سكسوني" في تسعينيّات القرن الماضي، مفهومٌ جديد، هو مفهوم التنوع العصبي-النفسي، أو التنوع السيكولوجي (neuro-diversity).مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.