بينما كنتُ أُنظِّم وَرْشة تدريبيّة حول التعدُّديّة والاختلاف، واجهتُ مَوقفًا يكاد يتكرَّر في كلِّ الوِرَش التدريبيَّة التي مرَرتُ بها، بل مع كل نقاش في هذا السياق، وفي كل لقاءٍ تتعدَّد فيه الطوائف، أو يدور فيه حديث حول الاختلاف؛ إذْ قالت إحدى المشارِكات إنها شديدة التقبُّل للمختَلِف، بل إنها تعتبر الآخر غِنًى ومكمِّلًا لها، حيث نشأَتْ على عقيدة احترام المختَلِف، وربَّاها والداها عليها. وفي خِضمِّ حديثها، تطرَّقَت إلى إحدى الطوائف التي تُحيط بها المختلفة عن طائفتها، وكم تَربطها بأفرادها علاقة قوية، والدافع هو شعورها الداخلي بـ"الشَّفَقة عليهم".
هنا كانت الوقفة.. سألتها بعد أن أنهَتْ حديثها عمَّ كانت تعنيه بمفهوم الشفقة، وكيف اعتبرَتْها الطريقة الصحيحة للتعامل مع الآخر المختَلِف. فقالت بفخر إنها وبفضل طائفتها وانتمائها، قد عرفَت الكثير ممَّا لا يَعرفه الآخر المختَلِف لظروفه وبيئته التي لم يكن له يد فيها؛ وبذلك تتملَّكها الشفقة عليه، وتُحاول على الدوام إيجاد الفرص المناسبة لإيصال ما تَعرفه إليه، لعلَّ ذلك يفيده، أو يجعله يرى أُفقًا جديدًا لم يَظفر برؤيته في الوقت الراهن.
حاولتُ حِينَها أن أُعيد راصدةً طرْحَ ما تفضَّلَت به تلك السيدة من وجهة نظر الشخص المختلف، وأن الشعور بالشفقة غالبًا ما يكُون من الطَّرَف القويِّ تجاه الطَّرَف الضعيف، أو من الكبير تجاه الصغير. ولا يَحدث هذا الشُّعور بين الأقران والأنداد، أو بين مَن يَرَون بعضهم متساوين. وتحديدًا لا يمكننا تطبيقه لإشعار المختلف بأننا نتقبَّله؛ فهذا شعور سلبيّ، لا يتناسب مع مبدأ التعايش الإيجابي بين الأطياف المختلفة المكوِّنة للمجتمع.
لم تتقبَّل هي الفكرة مبدئيًّا، لأنه سلوك تُمارسه كثيرًا في حياتها، وقد لامسَت إيجابيّاته. ثم استحضرَت أمثلة بينها وبين تلميذاتها بالمدرسة، وكيف أنّ شفقَتَها عليهنَّ كانت دائمًا بدافع إنساني، ما جعلها قريبة جدًّا منهنَّ، وأنها ومن ذلك المنطلق، رأت أن تطبِّق المفهوم نفسه مع الآخر المختلف.
اِنتهى حوارنا بالطبع، ورجعتُ أدوِّن ملاحظاتي حول الوَرْشة التدريبيّة. وقد كانت هذه الجزئيّة من أهمِّ ما دوَّنتُه وحفِظتُه، لإضافته كعنصر مهمٍّ جدًّا للتدريب القادم. فهذا مَظهر من مظاهر مجتمعاتنا، والتي تُسهم بشكل كبير في تشكيل تحدِّيَاتنا في النظرة إلى الآخر بصورة سلبية، بل وتكرِّس لدى أجيال قادمة مفهومًا مَغلوطًا عن الآخر، وتَضعُه في مَوقعٍ أقلَّ ورتبةٍ أدنَى في سُلَّم الرُّقيِّ الإنساني، ليستحقَّ التعاطف والشفقة!
غالبًا ما يَرتبط مفهوم الشفقة لدى الشرقيِّين، بأنه يَصدر من شخص في مستوًى أعلى تجاه شخصٍ مِن مستوًى أدنَى. لذا، ومَهْما حاول الشخص تنميقها ووَضْعها في مستوًى مهذَّب، فهي ستصل نهايةً إلى أنه ينظر من مكانه "الأعلى"، إلى آخرين دُونه في مكانهم "الأدنى"، معرفيًّا وثقافيًّا أو حتى اجتماعيًّا، وهو الاستعلاء بِعَينه، ولكن من منظور مِهنيّ.
أنْ نُشفق على مُكوِّن مختَلِف نشاركه في المعيشة، محاولين تعليمه وهدايته إلى ما نظنُّه نقصًا فيه، شيْءٌ غيْرُ محمود، بل هو أمرٌ ينزعج منه الآخرون، لأنهم لا يَرَون نقصًا في تكوينهم، ولا يَشعرون بأننا قد نكون أعلى منهم شأنًا أو أكثر منهم فهمًا، بل يشعرون بِرفضنا لهم لأننا نحاول أن نجعلهم مِثلنا. وهنا نَعُود لمنشأ المشكلة، وهي أننا لا نتقبَّله كما هو، بل نتمنَّى أن يُصبح مِثلنا، لأن ما لدينا أفضل.
إن إيماننا بالعيش معًا، يَفرض علينا أن نَقْبل المختَلِف دون محاولة تغييره، أو اقناعه، أو حتى الإشفاق عليه، بِحُجَّة أنه لا يَعرف ما نَعرف، ولم يَحْظَ بما حظِينا به، بل ينبغي أنْ نَقْبله كما هو، ونَقْبل هُوِيَّته التي اختارها، بل ونحترمها كما نحترم هُويَّتنا التي اخترناها. هذا هو العدل، وهذا شرط القبول للآخر، وأيُّ محاولة أخرى لِثَنْيه عمّا يعتقد، فهي محاولةُ مَسْحٍ لهُويّته أو انتقاصٍ لها.
ونعود من حيث بدأنا. شعورنا تجاه الآخر ينبغي أن يكُون قبولًا تامًّا، لا إشفاق فيه ولا استنكار، ولا أيّ شيء يَدخل في صُلب محاولة تغيير هُويّته، أو المِساس بها بأيِّ شكل كان. فهذا مؤشِّر سلبيّ لا يواجهه الآخر إلا بالسَّلب وبمزيد من الصراعات، في حينِ الآخرُ كما قال سيِّدُنا عليُّ بن أبي طالب: "إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلْق"، لا تَعْلُوه، ولا يَعْلوك في شيء.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.