في لحظة كتابتي لهذا المقال، كانت 63000 عملية بحث في محرِّك البحث "غُوغل"، تجري حول العالم. منهم مَن كان يسأل: "مَن هو الله؟". فما جواب "غوغل" عن هذا السؤال؟ إنْ طرَحْنا هذا السؤال باللغة العربية نَحصل على 766 ألف نتيجةٍ للبحث، وإنْ طرَحْناه باللغة الإنكليزية نحصل على 26.1 مليون نتيجة.
إنَّ نظرةً عامّة وسريعة في تلك النتائج، كفيلة بأن تُظْهر لنا تَنوُّع الإجابات والتفسيرات عن الله وتَشعُّبها، مِن منظور ديانات ومجموعات متنوّعة حول العالم. فإنْ كان الفرد يبحث عن حقيقة ما، فسوف يجد في غوغل ملايين "الحقائق". معادَلةٌ بسيطة كهذه، تؤكد لنا أنّ هذا التنوّع في النتائج والبيانات، ما هو إلّا مِرآة للمجتمع تَعكس جزئيًّا واقع الاختلاف البشري في التديّن، والنظرة إلى الخَلق والكون والحياة، كما التعددية في الآراء والحقائق الروحية والدينية والثقافية.
في هذه اللحظة أيضًا، تستمرُّ عمليات البحث في غوغل. منهم مَن يبحث عن إجابة مُعيَّنة، آمِلًا من المَوقع أن يعزّز قناعاته. فيَكتب مثلًا: "أنا أكرَهُ المسلمين"، أو "أنا أكرَهُ أصحاب البَشَرة السوداء". في هذه الحالة أيضًا، يقدّم غوغل له لائحةً من "الحقائق" التي قد تَشفي غليله. وفي هذه المرّة، تُعبِّر المواقفُ المذكورة والنتائج المرتبطة بها عن واقع مِلْؤُه الكراهِيَة والعنف، وتَعكس الارتفاعَ الذي تَشهده مجتمعاتنا الحقيقية والافتراضية لمنسوب خطاب الكراهيَة، إلى حدود قياسيّة؛ نتيجة المواقف السلبيّة التي يأخذها الأفراد تجاه التنوّع والاختلاف.
لكنْ، ماذا يعني كلُّ ذلك؟
لقد شهد عالَمُنا في التاريخ الحديث جرائم كراهيَةٍ فرديّة، وأخرى جماعيّة، قضَت على شعوب بِرُمّتها. قد تبدو هذه الجرائم أحيانًا فوضوية، ونتيجة رُدُود أفعال إنسانيّة عصبيّة، لا يمْكن التنبُّؤ بحصولها مُقدَّمًا. ولكن، أثبتَت دراسات عديدة إمكانيّة التنبُّؤ بجرائم الكراهية، من خلال تحليل بيانات البحث في غوغل وغيره من محركات البحث، ومِن ثَمَّ استباقُها وتَجنُّبها. فقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز عام 2015 نتائج إحدى هذه الدراسات، التي استطاعت أن تُفسّر الصعود والهبوط لِمُعدَّلات جرائم الكراهيَة ضد المسلمين في الولايات المتحدة الأميركية، استنادًا إلى عبارات البحث عن المسلمين في "غوغل".
بالطبع، لم تُوَلِّد شبكةُ الإنترنت خطابَ الكراهية، لكنها ساهمت في انتشاره وتَشكُّله على نطاق واسع. فهذا الخطاب، يَنتِج بالأساس من الشعور بالكراهية تجاه شخص أو فئة معيّنة. وهو شعور إنساني، قد يكون فرديًّا أو جماعيًّا، ويمْكن أن يُعبَّر عنه بالقول أو الفعل. ويَعتبر بعضهم أن السبب الجوهري لخطاب الكراهية، وما يَنتِج منه من أفعال عنف، هو عدم استعداد الأفراد لِأَنْ يكُونوا "أحرارًا"، وعدم إدراكهم أنَّ: "الحرية والكرامة من خواصِّ هذه الطبيعة البشرية، التي يشترك فيها كلُّ الناس بلا استثناء" (نعوم تشومسكي). فمثلًا: حريّة التعبير التي تَصونها شِرَع حقوق الإنسان العالمية، باتت تُستغلّ للتجريح والتحريض والحثِّ على العنف. أمَّا خطاب الكراهية ضد فئة معيّنة، فهو نقضٌ لحقِّ هذه الفئة وحرِّيَّتها في التعبير عن نفسها بالقول أو الفعل، حتى لِحقّها في الوجود في الحالات المتطرّفة.
لكنْ، هل يمكن لمجرّد شعور في داخل الإنسان أنْ يتسبَّب يومًا ما في جريمة كراهية، أو إبادة جماعية لفئة من الناس؟ الجواب: نعم. فلقد أدركَت الدول والحكومات، أن هذا الشعور الإنساني الفردي يمْكن أن يتحوّل إلى ظاهرة جماعيّة خطِرَة. فما يبدأ بِدُعابات وصُوَر نمطية عن فئة معيّنة من المجتمع، قد ينتهي مع مرور الزمن بإبادة جماعيّة لها (مثل الإبادتَين الأرمنية واليهودية، ومَذابح رواندا). هذا ما يشرحه "هرَم الكراهيَة"، حيث تُشكِّل "المواقف المنحازة" (كالصور النمطية والدُّعابات والشائعات) قاعدةَ الهرم، وتليها "الأفعال المنحازة" كالتنمّر والتجريد من الإنسانيّة، وبَعْدها "أفعال التمييز" على الصعيد السياسي والقانوني والاقتصادي، ومِن ثَمَّ "أفعال العنف" كالقتل والإرهاب، لتَصل إلى "الإبادة" في رأس الهرم.
هذا ما أدركَته مواقع التواصل الاجتماعي، ومحرِّكات البحث أيضًا. فعمَدَت إلى تطوير آليَّاتها وسياساتها، مُحاوِلةً في فضائها التخفيفَ من وقع خطاب الكراهيَة وتداعياته. لكنّها اصطدمت مِرارًا بعُمق الكراهية المتأصّلة لدى الأفراد، التي أنتَجَت أخيرًا الهجومَ الإرهابي على مسجِدَين في نيوزيلندا، والذي نُقِل مباشرةً عبر الفيسبوك.
نحن أمام أزمة كراهِيَة عالميّة لا يمْكن المساهمة في التخفيف من حدّتها، إلّا عبْر تطوير أنظمة سياسية واقتصادية عادلة وحاضنة للتنوّع، واستحداث وسائل وأدوات للتربية، تُحاكي واقع الفرد في العصر الحالي، وتُهيّئه ليكُون "حرًّا". وفي حين تستمرُّ عمليات البحث في مُحرِّك غوغل حتى الآن، أتمنَّى أنْ يُوجَد هناك مَن يسأل: "كيف أُواجِه الكراهِيَة؟".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.