الحِوار ليس مِن اختصاص فئةٍ معيَّنة من خُبَراء يلتقون من حين إلى آخر، بل هو مُلكٌ للناس جميعًا، كرؤية كونية قيميّة، وكطريقة في العيش يمكن أن يحياها كلّ إنسان من موقعه الخاص، وحسب طاقته.
على الصعيد الاجتماعي، الحوار هو الطريقة المثلى للتعارف بين الناس، حتى وإن اقتضى الحال الوساطة لحلّ النزاعات، وهذا الدور الهامّ لا يمكن إنكاره. لكن، للحوار وظيفة روحية إنسانية لا تقلّ أهمية، حيث ينطلق مبدئيًّا من ثقة سابقة في الإنسان، في الخير الكامن فيه، اعتقادًا منه أن السلوك الحواري كفيلٌ بتحفيز ذلك الخير وتحريكه، وجعلِهِ يَظهر ويُثمر. الهدف الأوّلي من الحوار هو كسر حاجز الرِّيبة، الذي يجعل الناس ينظرون شَزْرًا إلى بعضهم بعضًا. الحوار فضاء للحرية، يسمح للإنسان بأن يكون ذاتَه، دون الخوف من سوء العاقبة، أو من قطيعة محتمَلة.
الإيمان بالخيريّة الفطرية للإنسان، الذي يبدو ساذجًا وحالِمًا لبعضهم، نابعٌ في الحقيقة من إيماننا بالنفخة الإلهية في الإنسان، وهي جوهر كينونته. قد تكون خفيَّة مثلما خفِيَت على الملائكة أنفسهم يوم خلَق الله آدم، فلم يَرَوا فيه في البدء سوى ظاهر الطين الثقيل. تلك النفحة النورانيّة موجودة رغم كلّ شيء، ولكنها في حاجة إلى من ينفض عنها الغبار، ويساعدها على التجلّي. الحوار -بأجواء الثقة التي يتيحها- يشجّع على ذلك، فهو وسيلة أنسَنَة من شأنها أن تحقّق الهدف الحقيقي من التجربة الدينية، وهو تحقيق مخزون القداسة في قلب كلّ إنسان وتفعيلها، فالحوار ليس هامشيًّا في الحياة الروحية والتجربة الدينية، وحوار الإنسان مع ربه في الصلاة، لا ينفصل عن حوار الإنسان مع أخيه الإنسان في الحياة.
خاصّية روحية أخرى للحوار، هي حُسن الإنصات، والاستماع للآخر بكل كياننا. فلا نسارع إلى التفكير في الردّ عليه وهو يتحدّث، لا نقاطعه، لا نجادله، بل نؤوّل ما يقول على أحسن وجه. من يستمع إليك بانتباه، فإنما يعطيك أثمن ما لديه: وقته، بل يعطيك قطعة من حياته. الإنصات الحقّ عملية تفريغ للذات من الأنا، عملية "تَخْلِية" بلغة أهل التصوف، استعدادًا لاستقبال ضيف الرحمن في رحابة القلب الصافي.
آيات الله متفرّقةٌ في الآفاق والأنفس، في كلّ إنسان، وفي كل ثقافة ودين. فهذا الإنصات الجادّ يسمح لنا برؤية آيات الله المبثوثة في الخلق. كلّ مخلوقٍ يحمل لنا رسالةً ما من الله، علينا أن نفكّ شفرتها ونتدبّرها. الحوار في بعده الروحي، طريقة صوفية للتطهّر من أدران الكراهية والخوف والشكّ، وللتحرّر من كلّ الأحكام السابقة، والأفكار المعلَّبة والجاهزة؛ ما يوفّر للإنسان طاقاتٍ ضخمة، كانت مهدرة في معارك فارغة وصراعات وهمية.
أمَّا على المستوى الفكري والأكاديمي، فالحوار أساسي اليوم في أيّة محاولة جادَّة لإصلاح الفكر الديني. فكيف يمكننا أن ندّعي أننا ننتمي إلى ديانات عالمية، في حين نحن غارقون في محلِّيتنا؟ وكيف يمكننا أن ندّعي الإيمان بربّ العالمين، ونحن في الحقيقة نؤمن بربّ قريتنا أو حارتنا؟ الحوار هو ما يوفّر للتجربة والفكر الدينِيَّيْن آفاق العالمية الحقيقية، وهي ليست عالمية نظرية وليدة الكتب، ولكنها وليدة اللقاء بالآخر، والعيش معه، ومشاركته في همومه وأسئلته.
الخروج من المحلِّية والانفتاح على أفق العالمية، يجعلنا نتَنسَّب إلى ثقافتنا. أحيانًا تختلط الثقافة بالدين إلى درجة الالتباس، فنُضفي على النِّسبي صفتَي المطلق والدائم؛ ما يحبس تديّننا داخل حدودنا النفسية والثقافية، في حين تجربة "العبور" من ثقافة إلى أخرى، تفتح أعيننا على المبادئ "الباقية"، وهي الأساس، فنميّزها عن القشور، ونحرّر تديننا من لزوم ما لا يلزم. وهذا في حدّ ذاته عملية إصلاحية كبيرة، أي التمييز بين المبدأ الباقي والشكل الثقافي المؤقّت.
لم يعُد ممكنًا اليوم أن يفكّر المؤمن ضمن فرضيَّة غياب الآخر. لا يمكن لِلَاهوتيٍّ جادّ، أو مفكّر ديني يعيش عصره، أن يُنتج خطابًا دينيًّا من دون اعتبار التنوّع الثقافي أو الديني حوله. كُلّ نصّ نكتبه أو كلمة ننطق بها، تصل عبر الإنترنت إلى كل مكان، ونعرف أن المتلقِّين متنوّعون بالضرورة. لقد ولّى الوقت الذي كان الخطاب فيه محصورًا في أبناء الطائفة الواحدة أو الدين الواحد، بل حتى في الأزمنة السابقة عبَرَت الفكرة أسوار الثقافة. اليوم، بات التقوقع مهمَّة شِبهَ مستحيلة؛ وهذا ما يفسّر عنفه الزائد، ويجعل الحوار ضرورةَ حياةٍ، ونَفَس حرية.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.