قرأتُ في الأخبار أنَّ طفلًا حاول الانتحار في إحدى المقاطعات البعيدة، لأنه تَعرَّض للتَّنمُّر. ورأيتُ تحته خبرًا آخَر عن موتِ عشرين طفلًا في مدينة قريبة، بسبب قذائف الحرب، إلّا أنني عُدتُ دون شعور إلى إكمال قراءة الخبر الأول، ومتابعة تفاصيله وتطوُّراته، وفي أعماقي شعورٌ بالألم الشديد لِمَا آلَ إليه حالُ الطفل، وربَّما شعورٌ بالحماسة لِتنفيذ حملات تَضامُن مع هذا الإنسان البريء، الذي واجَه سُلوكًا غيْر سَوِيّ. في المقابل، مرَرتُ بالخبر الثاني الذي كان مُفادُهُ موت عشرين طفلًا، دون أن أُحرِّك ساكنًا.
بعيدًا عن كارثيّة سُلوك التَّنمُّر، وتَعاطُفنا الكبير مع الطفل الذي اختَبر سُلوكًا مريضًا كهذا؛ فهذا الأمر يدفعنا إلى التفكير، حول كيفية تَشكُّل دوافع التعاطف والتضامن لدينا. فما الذي يجعلنا نَميل إلى التعاطف مع الفرد الذي يعاني مأساةً أقلَّ، ويبقينا في خانة اللاشعور تجاه المجموعة التي مأساتُها أكبر، على رغم أنَّ المَنطق يُمْلي علينا أن نُبْدِي تَعاطفًا أكبر، كلَّما زاد حجم المأساة؟! ثم إنّه كثيرًا ما تُعقَد المقارَنات، بين حوادث صغيرة ضحيَّتُها أفرادٌ وجدوا لقصصهم تَضامُنًا كبيرًا، وحوادث مقابِلة جسيمة أوْدَت بحياة المئات أو الآلاف، لم تَنَلْ حقَّها من التعاطف والمناصرة. ففي مَعرض المقارَنة، تُحشد نظريات المؤامرة والمَظلوميّات كتبرير لهذه الظاهرة، وتبدو هذه السَّرديَّة ذات منطقيَّة معقولة في تفسير الظاهرة.
لكن، ماذا لَو علِمنا أنَّ جزءًا كبيرًا من تَجاهُل الضحايا، مرتبط بزيادة أعدادها؟ أيْ أنَّ الحجَّة التي نَفترض أنَّها السببيَّة الرئيسية لزيادة التعاطف، هي في الحقيقة السبب الخفيُّ للتجاهل. ففي الحالة الأولى، تَظلُّ الضحيَّة الفرديّة، في نطاق قدرة المُتابِع لها على التصوُّر والإحساس بما حدث؛ ما يُولِّد لديه قدرًا كبيرًا من التعاطف والتفاعل. أمَّا في الحالة الثانية، فإنَّ الضحايا يتحوَّلون -دون أن نَشعر- إلى خانة الأرقام، حيث تُصبح ماكينة مَشاعرنا الداخلية، غيْر قادرة على إنتاج تَعاطُف أو تَضامُن مُتَّسق، ويصبح رقم الضحايا الكبير حاجزًا يَسدُّ ما يجب أن نعطيه من مشاعر مستحَقَّة. وقد جسَّدَت هذه الفكرةَ الأمُّ تريزا في إحدى مقولاتها: "إنْ نظرتُ إلى الجموع الكبيرة فلن أفعل شيئًا، لكنْ إنْ نظرتُ إلى فردٍ واحد، فسوف أفعل".
في بحثه الذي عَنْونَه بالمقولة السابقة، يَصِف عالِمُ النفس "بول سلوفيك" من جامعة أوريغون هذه الظاهرة، حيث يتحدث بقدرة أرقام الضحايا وأعدادها المتزايدة، على تخدير مشاعرنا الداخلية. فنحن لا نستطيع أن نَبني رابط تعاطُف بيننا وبين الأرقام، ومِن ثَمَّ نَبقى خارج دائرة الفعل أمام الكثير من الكوارث الإنسانية. هذا لا يعني أنَّ معظم الناس فاقِدُو الإحساس أمام مَن يُعانُون، بل على العكس تمامًا. فالتفاعل الذي نُبديه في الحالات الفردية، يُثبت امتلاكنا لطاقة كبيرة من القدرة على التضامن. لكن، يبقى هذا التفاعل مرهونًا بما يسمَّى "تضارُب العاطفة والعقل"، في اتِّخاذ مواقفنا؛ إذ إنَّ التفاعل العاطفي هو قدرتنا على الاستجابة السريعة للمواقف، سواءٌ إيجابيَّةً كانت أو سلبيَّة.
أيضًا يُصاب هذا التفاعل بالجمود، حين تَدخل الأرقام والإحصائيّات العقلية في خطِّ الشعور. لذا، نُصابُ بالعجز؛ إذ إنَّ الأرقام غير قادرة على نقل المعنى الكامل للأعمال الوحشية، التي لحقت بجمهور الضحايا. لذلك، تفشل الأرقام في تحفيز المشاعر الباعثة على الفعل. فنحن مثلًا: نَعرف أنَّ الإبادة الجماعية في "دارفور" أمرٌ حصل بالفعل، لكننا لا نشعر بتلك الحقيقة.
أمرٌ آخَر يعزِّز هذه المعضلة، وهو أنَّ ظهور الضحايا كأرقام في وسائل الإعلام بشكل منتظم، يحوِّل المَآسي إلى أحداث فاقدة القيمة لناحية التفاعل الإنساني معها، أيْ أنه يَخلق حالة من التطبُّع مع هذا النمط من الأخبار. فتُصبح الكوارث جزءًا من روتين يوميٍّ، يتحوَّل معها المتلقِّي إلى إنسان مخدَّر الشعور، لا بل قد يصبح الاستثناء، هو مرور يوم دون سماع أرقام القتل والجرائم الوحشية. يضاف إلى ذلك، مساهمة بعض وسائل الإعلام -دون قصد- في إعطاب ماكينة الشعور لدى المتلقِّي، من خلال تَبنِّي السَّرديّة الرقمية فقط في عرض أخبار الضحايا، حيث تُعزِّز بذلك سلوك التجاهل تجاه الكوارث الإنسانية.
إنَّ إدراك طبيعة حدوث التعاطف والتفاعل مع المحتاجِين/ات، يمنح المجتمع القدرة على تفكيك معضلة تَحوُّل الضحيّة من إنسان إلى رقم، وأيضًا يُتيح ترتيبَ أولويَّات التضامن الإنساني، بما يحقِّق قدرًا من العدالة في توزيع المشاعر والأفعال، لِتَصِل إلى كلِّ الضحايا الذين تُخبِّئهم الأرقام خلف عدَّاداتها.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.