ليس عبثًا أن يكون الشيطان، وَفْق المنظور القرآني، هو أول مثال للغرور والاستكبار، وأن يكون الملائكة هم أول أنموذج من التواضع والسكينة. ويَذكر القرآن أن الشيطان قد رفض أمْر اللهِ له بالسجود لآدم، وأنه حاول تسويغ عصيانه بادِّعاء تميّز عنصر خَلْقه الناري، خلافًا للملائكة الذين لم يمنعهم سموُّ عنصرهم النوراني من الاستجابة لأمر الله والسجود لآدم، رغم أن مادة خَلْقه الظاهر لم تكن سوى قبضة من الطين.
يتضمَّن أمرُ الله لملائكته بالسجود لآدم، الاعترافَ بالإنسان واحترام وجوده، وهذا يؤكد أن جوهر العلاقة بين الكائنات تتمثل بفضائل الأخلاق، وليس بأوهام التماهي مع الحقيقة، والاستعلاء على الخلق. فالشيطان لم يكن ينكر الاعتقاد بوجود الله؛ وإنما كانت مشكلته الكبرى تتمثل بالغُرور، إلى الحدِّ الذي جعل القرآن الكريم يطلق على (الشيطان) تسمية (الغَرُور): {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14]. وهذا يعني أن الإنسان لن يُجْدِيَ عنه شيءٌ ما لم يُطهّر نفسه من غواية الغرور.
كثيرًا ما وصف المسيحُ عليه السلام نفسه في الإنجيل بأنه "ابن الإنسان"، كذلك ركز القرآن في وصفه لشخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم على أنه بشر: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]. وهذا يعني أن بشرية الإنسان هي الوعاء الجامع بين الناس، مَهْما كانت مواهبهم الروحية، وعطاياهم السماوية.
وفي القصص القرآني، لم تمنع مكانة موسى الكليم من أن يتعلم من إنسان لا يعرفه أحد (العبد الصالح)، كما لم تمنع نبوَّة سليمان ومُلْكه من أن يتعلم من طائر الهدهد.
التواضع، واللين، وخفضُ الجناح، والبُعد عن الاغترار، سِمَاتٌ لعِباد الله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفُرقان: 63]. وقد جسَّد المصطفى هذا الخُلُق في حياته العملية عندما جاءه رجل فقال له: "يا خير البرِيَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك إبراهيم عليه السلام" (مسلم). فتواضُع النبي ولين خُلُقِه كانَا وراء اتِّباع الناس له، حسب ما يقول القرآن: {فَبِمَا رَحمةٍ مِنَ الله لِنْتَ لهم ولو كُنتَ فَظًّا غليظَ القلبِ لَانْفَضُّوا مِن حَوْلِكَ} [آل عِمران: 159]، وكذلك كان المسيح يأمر أتباعه بالتواضع والوداعة اللَّتَين جسَّدهما عليه السلام في حياته على الأرض: "وتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ" (متى 11: 29) .
يُفترض أن يؤدي إيمان الإنسان بوحدة الأصل البشري، إلى زيادة شعوره بالمساواة والأخوَّة مع غيره من الناس، وهو ما يعزِّز تواضع الناس فيما بينهم، كما يعزز ذلك التواضع اعتقاد الإنسان أنه مخلوق من الطين. ولعلَّ تواضع الإنسان أمام الأسئلة الكبرى التي شغلت بالَ البشرية، من شأنه أن يحُول دون أن يحتقر إجابات الأغيار، التي قد يجدون فيها شيئًا من اليقين.
يبدأ تواضع الإنسان من تواضعه أمام ذاته، عندما يعرف نفسه، ثم يمتد ذلك التواضع إلى علاقة الإنسان بغيره من الناس. ولا يرى المتواضع في تواضعه أمام غيره ذُلًّا أو ضعفًا، وإنما يرى فيه تجسيدًا عمليًّا لمعرفته بنفسه، وما تنطوي عليه من ضعف ونقص عميقَيْن.
نفوس المتواضعين هي نفوس تتصف بالطمأنينة والوداعة، وهي جديرة بأن تسكنها الحكمة خلافًا لنفوس المستكبرين والمغرورين، فنفوسهم مضطربة تعتريها الهواجس والأوهام، وليست جديرة بمعاني الحكمة.
عندما تتوارى فضيلة التواضع بين الناس، تظهر الأخلاق المذمومة كالغرور، والاستكبار، والتجبّر، والاختيال، والرياء، والكذب، ورفض الاعتراف بالصواب. ويصبح الإنسان "مشروع طغيان"، وتزداد دواعي الطغيان عنده، كلَّما ازداد غروره وشعوره بالاستغناء عن غيره. ولا يقتصر الطغيان على من يملك السلطة والمال والجاه، وإنما يصل إلى من يستشعر امتلاك المعرفة والحق.
في التاريخ الإنساني شواهد كثيرة تعلِّمنا أن استفحال غريزة القوة، وأوهام الغرور، يعجل في نهاية الدول والمجتمعات. وهذا يعني أن غرور الأقوياء وطغيانهم هما مصدر ضعفهم وهزيمتهم، وأيضًا يؤكد أن تواضع الحكماء هو مصدر قوَّتهم وانتصارهم في نهاية المطاف.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.