تَتداول وسائل الإعلام منذ بضعة أسابيع، خبر مسابقة لرسوم كاريكاتيريّة فيها إساءة لنبي الإسلام، يُزمع تنظيمَها بهولندا، البرلمانيُّ المعروف بمواقفه العَدائيّة من الإسلام والمسلمين "خيرت فيلدرز". ورغم دعوة مجموعة من الهيئات الحكومية الهولندية إلى منع هذا الحدث، لِكونه يُعتبر تحريضًا على الكراهيَة والعنف، إلّا أن السُّلطات الهولندية أكَّدت أن هذا العمل ليس نابعًا من موقف الحكومة أو الشعب الهولندي، وأنه يدخل في إطار حرية التعبير. وقد يَعني ذلك محطَّةً جديدة في تاريخ التوتُّر "الديني"، بين المسلمين والغرب.
يشكِّل التاريخ الطويل لهذه الأزمات ذات البُعد الديني في العصور الحديثة، نمَطًا حقيقيًّا من صِدام الحضارات والثقافات. ففي عام 1988 صدَرت رواية "آيات شيطانيّة" للكاتب البريطاني سلمان رشدي، والتي تتضمَّن إساءةً بالغة للمقدَّسات الإسلامية. فاندلعَت مُظاهرات واشتباكات عديدة في عدّة عواصم من العالم، خلَّفَت قتلى وجرحى. وفي سنة 1989 صدرَت فتوى الإمام الخُمَيني في إباحة دم الكاتب، وفي سنة 2004 قام هولندي من أصل مغربي، باغتيال المُخرج الهولندي تيو فان غوخ، بسبب فيلم "الخضوع"، الذي ينتقد فيه ما اعتبره عنفًا في القرآن ضد النساء.
عمومًا، تميَّزَت ردود فِعل المسلمين تجاه ما اعتبروه إهانة لمقدَّساتهم، بالانفعال المُفرط، وأحيانا بغَوغائيّة أدَّت إلى أعمال عنف، كرَّسَت داخل الرأي العام الغربي فكرةَ الإسلام كدين عنيف. ففي سنة 2005، قامت صحيفة دنماركية بنشر رسوم كاريكاتوريّة مسيئة للنبي محمد، فاندلعت احتجاجات عنيفة، وأُضرمت النيران في عدّة سفارات دنماركية، ودعَت حركة طالبان المسلمين إلى "الجهاد". وأيضًا كانت هناك دعَوات إلى إحراق القرآن. بعد سنة، ألقَى البابا بنديكت السادس عشر محاضرة في جامعة بألمانيا، مستخدمًا اقتباسًا مُفادُه أن كلَّ ما جاء به النبي محمد، كان "شرًّا وغير إنساني"، مثل "أَمْره بنشر الدين الذي يدعو إليه بحدِّ السيف". أثار ذلك حملة استنكار وتظاهرات في عدة مناطق من العالم، وأيضًا تعرَّضَت مجموعة كنائس للهجوم بالقنابل، في نابلس والبصرة.
مرة أخرى، إن مسألة الإساءة للرموز الدينية، أعطت الانطباع بوجود تناقُض جذريّ بين الإسلام ومفاهيم الغرب، حول حرية التعبير والرأي، والتي تَفترض قبول نقد الأديان والسخرية منها، كممارَسات مميِّزة للمجتمعات الحديثة. ففي سنة 2013، قامت صحيفة شارلي إبدو الفرنسية بإعادة نشر الصور المسيئة للرسول، وبعد عامين قام رجُلان باقتحام مقرِّ الصحيفة وقتل 12 شخصًا. أثار إصرار الصحيفة على إعادة نشر الرسوم، أسئلةً مُقلقة حول عجز الحَداثة الغربية والمسلمين أنفسهم، عن التوصُّل للاتفاق حول ميثاق يرسم الحدود، بين حرية التعبير والعنف الرمزي الذي يُحسُّ به المسلمون.
يُلاحَظ في أغلب هذه الأحداث، أن الموقف في كثير من الدول الغربية يرفض فكرة تجريم ازدراء الأديان، وذلك على أساس أسبقيّة مبدأ حرية التعبير، على مبدأ الحق في عدم التعرُّض للإهانة. ثم إنّ الفعل "الازدرائي" قد يكون مَوقفا نقديًّا، ولمَّا كان لا يؤثِّر في درجة إيمان الأشخاص بمعتقداتهم، فإنه يجب على المواطنين أن يتحمَّلوا ما يَشعرون بأنه إهانة. على النقيض من ذلك، تُطالب أغلبُ الدول الإسلامية بتجريم "ازدراء الأديان".
أعتقد أن العقل الإسلامي في حاجة إلى مفاهيم جديدة لمعالجة الاختلاف، حتى عندما يتَّخذ طابعًا "تجديفيًّا"؛ وذلك لأن البشرية قد تكُون دخلَت في عصر "النَّقدانيّة الشاملة"، حيث أصبحت كلُّ العقائد الدينية تخضع للنقد التاريخي والتفكيك، فكريًّا أو عبر السخرية، وتدريجيًّا يَغدو المقدَّس الوحيد، هو الحقُّ في النقد.
بصِفَتي مُسلمًا، أتساءَل: ألم يكن من الممكن، أن تشكِّل الكثير من الأزمات التي أشرتُ إليها، فُرصًا للانخراط في عملية نقدٍ ذاتيٍّ حول التراث الإسلامي، الذي يعجُّ بالعشرات من الأمثلة التي تهدم فكرة سماحة الإسلام، وتشوِّه صورة النبي نفسه؟ أليست "إسلاموفوبيا" الغرب، انعكاسًا لنسخة مشوَّهة من الإسلام السَّلَفِي المتزمِّت والعنيف، الذي يجد له أصولًا في التراث الإسلامي نفسه؟
قد تَكمن ثورة الفكر الإسلامي في الانتقال من قُدسيَّة الحقيقة إلى قدسية النقاش، أو ما يسمِّيه هابرماس "أخلاقيات النقاش المَبنيَّة على الاستخدام العمومي للعقل"، بدلًا عن "الإلزامية والتعنيف".
أعتقد أن الصبر على الإهانة، بدَل الغضب من أجل معتقداتنا، قد يشكِّل سلوكًا دينيًّا وحضاريًّا راقيًا، ويمكن أن يمثِّل أسمَى مظاهر الإيمان في زمن الحداثة. لكنه قبل هذا وذاك، تجسيد لِقِيمة "الإحسان". يقول الله تعالى: {الذِينَ يُنفِقونَ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاء والكاظمين الغَيظَ والعَافِينَ عَن النَّاس واللَّهُ يحبُّ المُحسِنِين}. والله أعلم!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.