إن مفهوم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ركن أساسي لاستقامة الناس. فقد جاء في القرآن الكريم في وصف المؤمنين والمؤمنات المتحققين في إيمانهم والتزامهم: {والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضهم أولياءُ بعضٍ يأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عن المنكرِ ويقيمونَ الصَّلاةَ ويؤتونَ الزَّكاةَ ويطيعونَ اللَّهَ ورسولهُ أولئكَ سيرحمهمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عزِيزٌ حكيمٌ} [التوبة: 71]. ويأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن أيضًا، ضمن أوصاف خير الأمم.
بدأ الإسلام ثورة على قيم الجاهليّة. قيم كانت تسمح باضطهاد الضعفاء والفقراء، ولا تعطي المكانة إلا لمن كان ذا غِنًى وذا ذرِّيَّة من الذكور، ومنتميًا إلى عشيرة مرموقة. فأتى النبي محمد (ص) دون مال ودون ذرية من الذكور، لكي يقلب الله هذه المعايير. وشددت رسالة الإسلام على القسط والعدل، وعلى كرامة كلِّ إنسان، وعلى التكافل والتضامن المجتَمَعِيّ. فوجد الفقراء والمستضعَفون والأرِقّاء ملاذًا لهم في الإسلام ، ووجدت النساء رسالة تدافع عن حقوقهن، ووجد فيه الأغنياء لذّة المشاركة في أموالهم لنصرة إخوانهم، بهدف تغيير معايير مجتمعهم.
يقول "فريد إساك" العالم الإسلامي من جنوب إفريقيا، الذي ناضل ضدّ الفصل العِرقي والقمع، إلى جانب نيلسون مانديلا وديسموند توتو، والذي أسَّس لاهوت التحرير في الفكر الإسلامي: إن سورة الماعون تُمثّل نظرة جديدة إلى الدين. فهي تُعرّف الذي يكذّب بالدين على أنه الذي "يَدُعُّ اليتيم"، أي الذي يزجر اليتيم بدل احتضانه، وعلى أنه الذي "لا يحضّ على طعام المسكين"، أي الذي لا يجهد لكي يحصل الفقراء على حقهم في الطعام. وعلى هذا، يرى "إساك" أن الدين لا يقوم على العبادات وحسب، بل يقوم على التزام مجتَمَعِيّ لتخفيف ألم المظلومين والمُستغَلّين والضعفاء، وتحريرهم من الظلم والاستغلال، وتمكينهم في الأرض. فلا يكفي -برأيه- ليكون ضميرنا مرتاحًا، أن نزكّي أو نخمّس أموالنا، بل علينا العمل لتغيير النظم الاجتماعية والسياسية، التي تَظلم فئات من المجتمع وتُجحف بحقهم. بذلك فقط، نحذو حذو النبي محمد (ص)، الذي قلب معايير عصره، وأرسى قيم القسط والتكافل والتضامن والإيثار.
هكذا، أفهم وصيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالمعروف هو هذه القيم والمعايير التي تبدأ بكرامة الإنسان -كلّ إنسان-، وتُتَوَّج بالعدل المجتمَعِيّ الذي يعطي الجميع الفرص نفسها، والحقوق ذاتها. والمنكر هو كلّ نوع فساد في الأرض، وعلى رأسه الاستغلال والاستضعاف والظلم والتهميش، لأفراد وجماعات وفئات مجتمعية، من نساء، وأطفال، ومُسنِّين، وذوي إعاقات، ونازحين، وفقراء؛ ومنتمين إلى أديان أو جنسيات أو ثقافات أو أعراق أخرى.
إنه لمؤسف جدًّا أن هذه الوصيّة الأساسيّة للدين، التي تسمح للمؤمنين والمؤمنات بأن يكونوا أعضاءً فاعلين في مجتمعاتهم وصانعي تغيير، حُصرت في العبادات الظاهرة، وأَفرزت تسلُّطًا اجتماعيًّا يعاقب من يخالف الأوامر والنواهي الفقهية، ويتّسم في معظم الأحيان بالقمع والظلم، في حين أساسُ الوصيّة هو رفع الظلم.
كذلك من المؤسف أن كلمة "حدود الله" تُستخدم للعقاب، في حين مَن يتمعّن في النص القرآني، يرى أن حدود الله هي حدود عدم استغلام المرأة واليتيم والفئات المهمَّشة. فكلَّما ظهرت عبارة حدود الله في النص القرآني، تكُون مسبوقة بآيات تعطي النساء أو المساكين حقوقًا. وبهذا، تُفهم علاقة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، بمسألة "حدود الله"، في قوله تعالى: {التَّائبونَ العابدونَ الحامدونَ السَّائحونَ الرَّاكعونَ السَّاجدونَ الآمرون بالمعروفِ والنَّاهونَ عن المنكَرِ والحافظونَ لحدودِ اللَّهِ وبشِّرِ المؤمنينَ} [التوبة: 112].
يأتي في سورة البلد أن الله أبانَ للإنسان نَجْدَين، أي طريقَين هُما الإيمان والكفر: {وهديناهُ النَّجدينِ، فلا اقتحمَ العقبةَ، وما أدراكَ ما العقبةُ، فكُّ رقبةٍ، أو إِطعامٌ في يومٍ ذي مسغبةٍ، يتيمًا ذا مقربةٍ، أو مسكينًا ذا متربةٍ، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصَّبر وتواصوا بالمرحمةِ} [البلد: 10-17]. فالإيمان عملِيّ، والعقبة هي الطريق الصعب، طريق بَذْل النفس من أجل الآخرين، وتحقيق العدالة ورفع الظلم.
بهذا الإيمان العملي، الذي لا ينظر فقط إلى الخلاص الفردي، بل إلى العدل المجتمَعِيّ أيضًا؛ نكُون قد امتثَلْنا أمر الله لنا بأن نكون {قوّامين بالقسط شهداء لله} [النساء: 135]، وأيضًا {قوَّامِين لله شهداء بالقسط} [المائدة: 8]. فالرسالة الإسلامية ليست لخلاص النفس فقط، بل هي لخلاص المجتمع بإحقاق العدل والتضامن فيه، وهذا هو المعروف؛ ثم من خلال التزام الجميع رَفْع الظلم، والتصدي للاستغلال والفساد والقمع، تجنُّبًا للمنكر الأساسي.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.