منذ سنوات، بل منذ عقود، هناك خطاب سياسي عربي يقول بأن "الأمة" تمرُّ بمرحلة دقيقة من تاريخها، وبأننا -أبناءَ هذه الأمة- في "منعطَف تاريخي". وتَزامُنًا مع هذا المنعطف، وتحت شعاراتٍ رنّانة لقضايا كثيرًا ما تكُون مُحقّة؛ جرى تأخير التنمية، والسكوت عن الفساد، وقمع الحريّات، والتنكيل بالمعارضين. ومرّت الأيام، وبقي الحديث بهذا المنعطَف التاريخي، حتى كاد المستمع العربي يخال هذا المنعطف الذي لا ينتهي دوارًا.
هذ الخطاب (خطاب المنعطَف التاريخي)، والفكر الذي يقف وراءه، أنتجَا مشاكل شتّى، وساعدَا من خلال الفساد وتجاوُز القوانين، على إفقار شرائح كاملة وتجهيلها في المجتمع، وإغلاق أُفُق المستقبل أمامها، وتهديد هُويّاتها ما قبل الوطنيّة؛ ما أسهم في خَلق التطرّف، الذي ما لبث في مرات كثيرة أن تحوَّل إلى تطرّف عنيف.
التطرّف العنيف بِدوره عبّر عن نفسه بأفعال إرهابيّة، هي إجراميّة ومُدانة بدون أدنى تردُّد. هذه الأفعال تُقدَّم في بعض وسائل الإعلام على أنها فعل يقتضي ردَّ فِعل يقابله، في الوقت الذي يبدو فيه التطرُّف -لمن يدقِّق في الأمور-، أنه غالبًا ما يكُون ردَّ فِعل على سلب الحقوق، والإفقار، وقمع الحريّات، وتهديد الهويّات.
في الوقت الذي يُذْعر فيه العالم، الغربي منه على وجه الخصوص، من الإرهاب الذي يقضُّ مضاجع مجتمعات لطالما نعمَت بالأمان، يُقدِّم أصحاب خطاب المنعطف التاريخي -لا غيرهم- أنفُسَهم، كحلول لمواجهة التطرّف والإرهاب اللَّذَين كانوا هم من المساهمِين الأساسيِّين في نشوئهما، على قاعدة "ادْعَموا بقاء أنظمتنا، نُبْقِ المتطرِّفِين بعيدِين عنكم". وتأتي هنا بعض السياسات الغربيّة التي تفضّل دعم أنظمة سياسيّة مستبدَّة، لأنها فقط تؤمّن الاستقرار -ولو بالعنف- في بلادها، وتُبقي أصحابَ الفكر والفعل المتطرّفَين لديها، تَحُول دون وصولهم إلى العالم الغربي. فأصحاب سياسات دعم الأنظمة الديكتاتوريّة، يَعلمون أنها سيئة ولا تحترم حقوق الإنسان، ولكن تفضيلهم حلولًا سريعة وشِبه مضمونة النتائج، يجعلهم يختارون أن يدعموا هذه الأنظمة.
زِدْ على ذلك، أنَّ دعمًا مماثلًا قد يُخفي خلفه، فكرة أن الشعوب المَعنيّة متخلّفة بطبعها، ولا تستحقُّ أنظمة لحكمها أفضل من الأنظمة الديكتاتوريّة. تبدو هذه الحلول الداعمة للاستقرار بهدف إبقاء التطرّف والإرهاب بعيدَيْن، غير مُجْدية في الحقيقة؛ إذ تُظهر مآلاتُ التاريخ أن القمع لا يمكن أن يستمرّ إلى الأبد. وإن كان للقمع والديكتاتوريّة "محاسن" استقرار مؤقَّتة، فإنّ الانفجار الذي سيأتي نتيجة هذا القمع -مهما طال الزمن-، سيُطيح بكلِّ ما اعتُبر حسنات الاستقرار، إضافة إلى أن قمع التطرّف لا يعالجه ولا يُلغي وجوده، بل يجعله يغلي بصمت، ويتمدَّد بهذا الشكل أو ذاك.
في المقابل، المعالجة الحقيقية والمستدامة للتطرّف، تُربح جميع الأطراف، عدا خاسر وحيد هو الأنظمة الديكتاتوريّة، التي يجب ألّا يكون لها يومًا مكانٌ بين الرابحِين. هذه المعالجة تداوي الأسباب بدل أن تقمع الأعراض. فتأتي الحريّات لتفتح المجال أمام التعبير عن النفس، والإبداع، والنقد، وكشف مكامن الضعف والخطأ. وتجيء الديمقراطيّة التي تَمنع الاستئثار بالحكم، والفساد وقمع الآخرين. وتأتي التنميةُ التي تحقِّق العدالة والرخاء بدل بؤس الفساد، ثم المواطنةُ الحاضنة للتنوّع التي تُلغي شعور المكوّنات الوطنيّة بتهديد لهويتها، وتُحوّل التنوّع من حقل تُسيء الديكتاتوريات استثماره ويستفيد منه الإرهاب، إلى غِنًى يفيد الجميع.
أخيرًا، يضاف اليوم إلى التطرّف والإرهاب، فزّاعةُ اللاجئين، المأساةُ الإنسانيّة التي باتت أداةً بأيدي أنظمة سياسيّة تساوم وتهدِّد بفتح الحدود أمامهم، لينطلقوا نحو أوروبا، أو تُحمّلهم كلَّ مصائب البلدان التي وصلوا إليها هربًا من الاضطهاد والموت. وعليه، لا بد من التذكير أن اللاجئين ليسوا خطرًا في حد ذاتهم، وقضيّتهم يجب أن تبقى إنسانيّةً بالدرجة الأولى، وإرغامهم على العودة -ولو تحت عنوان "الطَّوعيّة"- إلى حيث الخطر، لن يَحلَّ في الحقيقة أيَّ مشكلة إلَّا في الظاهر.
مَثلُ قضية اللاجئين كمَثل قضية الإرهاب، من حيث إنّ حلّها يستدعي حلّ أسبابها، وليس الاعتقاد -غير المنطقي- بأن مَن سبّب أزمة اللجوء سيكون هو نفسُه مُنْشِئَ الحلِّ لها، إلَّا إن كان الهدف هو تحويل المشكلة الحالية إلى مشكلة أكبر، بتأجيلها أشهر أو سنوات؛ إذ لا يمكن تطبيق الحلول ذاتها، وتَوقُّع نتائج مختلفة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.