أثارت مقالاتي الأخيرة على موقع تعدُّديّة بعض النقاشات الحادة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ جعلتني أفكِّر في صعوبة التَّحديث الديني والتغيير الثقافي، في سياقٍ يَعتبر الدينَ مجموعة نماذج نهائيّة.
الكثير من المتدخِّلين في هذه النقاشات، يعتقد أن ثَمَّة أطروحات لا يمكن قبول أن تكون مواضيع للتفكير، مثل مفهوم الشريعة المَبنيّة على التعاقد، أو مسألة مراجعة قوانين الإرث في ضوء نظريّة مَقاصد الشريعة؛ لأن ثَمَّة "حُكمًا قطعيًّا" لا يَقبل تعدُّد الأفهام، وأيضًا لا يمكن تغيير الدين والجهر بذلك. فالدين "ليس لُعبة"، بل إنَّ رفض قراءات "السَّلَف" لهذه المسائل، هو خدمة لأجندات أجنبيّة.
تَبيَّن لي أن ثَمّة تصوُّرَيْن للإسلام جِدَّ مُتباعِدَين: إسلام مُغلَق، دخَل مرحلةَ ما بعد الاجتِرار (إعادة الكلام نفسه)، والعَنْعَنة (قول الراوي: روَى فلان عن فلان)، وأصبح عاجزًا عن الاجتهاد لأنه أصبح بلا أُفُق حضاري. وإسلام آخَر جديد، ينبثق من سياق الحَدَاثة الكونيّة.
الإسلام المُغلَق كهَنُوت فِكريّ، يَعتقد انتهاءَ تفسير الدين وتأويله، ويرفض التفكير في الإسلام خارج الدائرة التي رسمها السَّلَف الصالح (الأئمَّة والتابعون)، والتي سمَّت نفسها السُّنّة والجماعة. لذا، نَلحظ استعمالًا مُفْرطًا للحديث المنسوب إلى الرسول: "إيَّاكُم ومُحْدَثات الأمور، فإن كلَّ مُحْدَثةٍ بِدْعَة، وكلّ بِدْعة ضلالة"، لإغلاق أُفُق التأويل الديني. ويجري رفضُ الاجتهادات التي يمكن أن تساهم في الإصلاح الديني؛ بِدَعْوى أنها تأتي من غير المختصِّين في العلوم الشرعية، وذلك "لَجْمًا" لِـ"العَوَامّ"، ومخافةَ أن يُفتَنَ "الدَّهْماءُ" (جماعة الناس) في دِينهم، مُتناسِين أن الشريعة ليست تخصُّصًا، بل هي شأن جماعي؛ يَتعلَّق بتنظيم المجتمع، وبالمُواطَنة، وبالعَقْد الاجتماعي.
بدأ الإسلام بسيطًا مَبنيًّا على إنسانية الإنسان، وتحوَّل إلى حقل ألغام، حيثُ مِئات من "الثَّوَابت" التي مُنِحَت اسم "المعلوم من الدِّين بالضرورة". اعترف الإسلام للناس بحرِّيّتهم وكرامتهم، فلماذا حَدُّ الرِّدَّة، وقد أرجأ الله عقاب المرتدِّين ليوم الحساب؟ ولماذا أحكامُ أهل الذِّمّة التي عمِلت على تمييز غير المسلمين عن المسلمين، لدرجة الإهانة؟
مع وُضوح القرآن: {ولقد يسَّرنا القُرآنَ للذّكر فهَل مِن مُدَّكر}، ومخاطَبتِه للناس كافة، فقد صَنع الكَهَنُوت وَسَاطاتٍ عِدَّة لفرض فهمٍ واحد؛ فكان تفسيرُ الطَّبَرِي وتفسيرُ التفسير، حتى أَغرَق الحَشْوُ المَتْنَ، وتناسَى "العلماءُ" أن الله اختار لتبليغ رسالته رجُلًا أُمِّيًا غير متخصِّص! هكذا ابتعَدْنا كثيرًا عن البساطة الأساسية للإسلام.
مِن الطبيعي أن تنتهي عقيدةُ احتكار فهم النصوص المقدَّسة، إلى تبرير الإقصاء كمُعاقَبَة لِمُخالف السُّلطة الدينية، التي تعتقد أنها مُطلَقة. وضَع الإسلامُ المُغلَق نفسَه في خدمة السياسة؛ فكان العشراتُ من المفكِّرين الذين نُكِّل بهم أو تعرَّضوا للتكفير، مثل: الحَلَّاج، ومحمد محمود طه، ونصر حامد أبو زيد، وفرج فودة، وعلي عبد الرازق، وغيرهم كثير. بل إنّ مِن ضحايا التعصُّب الديني أو المذهبي، الأئمَّةَ أنفُسَهم، مثل: أحمد بن نصر الخزاعي وابن حنبل، اللَّذَين عارَضَا العقيدة المُعتَزِلِيَّة للدولة، ورَفَضا أطروحة خَلْق القرآن.
أمام هذا العنف، من واجبنا أن نؤكِّد أنه لا توجد سُلطة دينية في الإسلام، بل فقط سُلطة الإقناع، ولا لِعِصْمة الرَّأي، فالفقه أو التفسير ليس إلَّا مجموعة تأويلات للدين. وإذا كان تعدُّد الزَّوجات هو قراءة للنصِّ القرآني، فإنَّ مَنْع التعدُّد أو تقيِيده قراءةٌ أخرى مُمْكنة؛ لأن النصَّ القرآني ربَط التعدُّد بشرط العدل، وهو ما لا يمكن أن يتحقَّق. فلماذا لم يكن إلغاء العبوديَّة مبادَرةً للفقه الإسلامي، عِلمًا بأن القرآن نصَّ على التحرير التدريجي للعبيد، بل وجعل تحرير الرَّقَبة من أسمَى القُرُبَات إلى الله؟ ذلك لأن فقهاء الإسلام استكانوا لِما فَعل السَّلَف، ولم يَعُوا أن "فقه العبوديّة" لم يكن إلَّا تأويلًا للنصوص، فنَسُوا "فقه التحرير".
ليس الفقه الإسلامي كما نَعرفه الآن، إلّا نُسخة مُمْكنة من الإسلام، وحسبما يقول المفكر الإيراني (سروش): "دِين كلّ واحد هو عين فهمِه للشريعة، فإن الشريعة الخالصة لا وجود لها إلَّا لدى الشارع عز وجلّ". لذا، فنحن "نَسْبح في بحر من التفاسير والأفهام".
إني أعتقد أن الإصلاح الديني في الإسلام لن يأتي من رجال الدين، لأنهم أَسْرَى مؤسَّساتِهم وتراثهم. إنهم يعتقدون أن الإسلام تراثٌ مُنجَز، في حين نعتقد أنه في حقيقته مشروع يَنتظر الإنجاز؛ لأن الانتقال من التنزيل إلى التأويل، هو عمليّة دائمة لتحقيق مَقاصد الشريعة.
أقول لمن يستميت دفاعًا عن "ثَوَابت الإسلام المُطلَقة": إنّ الدِّين ليس قلعةً نَحميها، بل قُلوبًا نطهِّرها، وعقولًا نُنِيرها! والله أعلم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.