اِنخرط المَغرب منذ حوالي عشرين سنة، في إستراتيجية طَمُوحة إلى تحسين الوضع القانوني للنساء، والقضاء على أشكال التمييز التي تستهدفهُنَّ. وشكَّلت سنة 2003 تاريخًا مَفصِليًّا؛ إذْ شهدت إصلاح قانون الأسرة. فتَضمَّن الإصلاحُ مجموعةَ مقتضيات قانونية، تتعلَّق بالزواج والطلاق والولاية، إضافة إلى تدبير الأسرة (القِوَامة). وقد جرى تقييد حقِّ الرجل في تعدُّد الزوجات، باشتراط رضا الزوجة الأولى. وأيضًا جرى تقييد ممارسة الرجل للطلاق، بوضعه تحت مراقبة القضاء وحُكْمه، فضلًا عن تحديد سنِّ الزواج للنساء بِـ 18 سنة. كذلك تَضمَّن الإصلاحُ إمكانيَّةَ توزيع الممتلَكات المحصَّلة أثناء الزواج، عند انتهاء الرابطة الزوجية.
مع ذلك، كان أثر الإصلاح محدودًا بسبب الحواجز الثقافية، التي عملت على إدامة نفس السلوكات التمييزية، التي تَنزع من المرأة إنسانيتها، مثل: ترخيص زواج القاصرات، وتعدُّد الزوجات غير المبرَّر، والتحايُل لحرمان النساء حقوقَهنَّ، خصوصًا بسبب انتشار فادح للأُمِّيّة والبطالة في صفوف النساء. وأيضًا لم يستطع الإصلاح الحدَّ من العنف الممارَس على النساء، والذي بلغ أرقامًا صادمة؛ ما جعل الدولة تعتمد أخيرًا قانونًا لمحاربة العنف ضد النساء وتجريمه.
لكننا اليوم، بعد سِتَّ عشرة سنة، نَعلم أن التأثير الثقافي للإصلاح كان إيجابيًّا؛ إذْ شكَّل مراجعةً عميقة لمنظومة فقهية، تحوَّلت –يا للأسف الشديد- إلى نوع من المقدَّس الاجتماعي، وأصبحت تُشكِّل عائقًا ذهنيًّا أمام عملية التحويل الاجتماعي والثقافي، الذي تُعتبر فيه المرأة مَركزَه بامتياز. ويمْكن اعتبار النقاشات التي أطلقها الإصلاح -والمستمرة إلى يومنا هذا-، عبْر إشكالية المساواة في الإرث، ثورةً ثقافية حقيقية، ليس فقط لمصلحة النساء، بل لمصلحة المجتمع كلِّه، الذي أصبح أكثر قدرة على التساؤل، والوعي بأن الكثير من المسَلَّمات التي كان يُعتقد أنها ذات مَصدر إلهي، ليست إلّا آراءً فقهية. أيضًا بدأتْ صيرورة الاعتراف بإنسانية المرأة وكرامتها، والإنصات لِمعاناتها الحقيقية، ودخَل صوتُ المرأة -بفضْل الحركات النِّسْويّة والمجتمع المدني- المَجالَ العامّ، كوعيٍ بالذات، بعد أن كانت المرأة مجرَّد موضوع للفقه.
ولكن، ماذا كان دور الجماعات والمؤسَّسات الدينية في مشروع التغيير الثقافي هذا؟
مع أن الإصلاح تَأسَّس على مجموعة اجتهادات فقهية متحركة، في إطار مقاصد الشريعة، إلّا أنه أثار -ولا يزال- سِجالات، لا يزال المجال العامُّ والمساجد مَسرحًا لها إلى يومنا هذا، بين الحَداثيِّين والمحافظين، الذي اعتبروا تغيير قوانين المنظومة الفقهية الأُسَريّة، تَهجُّمًا على الشريعة، وعلى ثوابت الأمّة. وغالبًا ما كان موضوع حقوق المرأة، بالنسبة إلى الإسلاميِّين، وسيلة إلى تحقيق مكاسب سياسية، عبْر تعبئة الجماهير وتكريس الصورة الدُّونيّة للمرأة. وكان الخطأ الأكبر الذي ارتكبه خصوم الإصلاح، هو وضع النصوص الدينية أو تأويلاتها الفقهية، في علاقة تَصادُم مع كرامة المرأة-الإنسان، لكن -عاجلًا أو آجلًا- سيَشقُّ صوتُ الكرامة طريقَه نحو عقول المواطنين وقلوبهم، رجالًا ونساءً. أيضًا لم يستطع خصوم الإصلاح الوَعْي، بأن "القِوَامة المشترَكة" أصبحت ضرورة تاريخية، مع تَزايُد الأدوار الاجتماعية والاقتصادية التي تقوم بها النساء، اللَّائي أصبحن يَعُلْنَ نسبةً كبيرة من الأُسَر المغربية. كذلك أصبحت الفتيات أكثر وأكثر تفوُّقًا في مجالات كثيرة؛ ما يعني أن مفهوم الوِلاية المطلَقة للرجل أصبح مُتجاوَزًا.
أيضًا لم يستطع خصوم الإصلاح الوَعْي، بأن الطلاق من جانب واحد أو التعدُّد بلا قيد، يحوِّلان المرأة إلى مجرَّد شيء، وأن الأمر لا يتعلق في حقيقة الأمر بالقِوَامة، ولا بالسُّلطة، بل بإنسانية المرأة نفسها، وأنّ عليهم اختيار الانحياز إلى إنسانية المرأة، والتضحية بآراء السَّلَف، من أجل الحاضر والمستقبل. أيضًا عليهم الإنصات لصوت النساء في مجتمعاتهم، لأن السؤال ليس هو: "ماذا تقوله النصوص الدينية؟"، بل: "ماذا تقوله بالنسبة إلينا وفي سياقنا؟".
في المغرب، قد تَسأل آلافَ النساء لِمَ تَقْبلن العيش في ظروف أُسَريّة مهينة وجائرة، فيُجبْن بأنهن يفضِّلن الذُّلّ على الطلاق والضياع في الشارع. فهُنَّ ضحايا بُنْية ثقافية أساسُها الهيمنة. لذا، أعتقدُ أن المهمَّة المقدَّسة لرجال الدين والجماعات الدينية، هي أن يَبْنُوا من خلال التأويلات الإيجابية للنصوص، الشروط الفكرية لتَحوُّل ثقافيٍّ عميق، أساسُه ثورة لاهوتية، مُفادُها أن الصوت الحقيقي لله يَنبع من معاناة البشر. فيَحْدُث الانتقال من فقه النصوص إلى فقه الإنسان.
يقول الله تعالى: {وإِذا الموءُودةُ سُئِلَتْ، بأيّ ذنبٍ قُتلَت}، وأقول: وإذا المرأة سُئلَت، بأيِّ ذنْبٍ أُهينَت! والله أعلم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.