قُل ما شئت في برامج التلفزيون عن حقوق البشر المتساوية. واكتب ما أردت في مناهج التعليم عن بني آدم وبناته المتساوين في الحقوق والواجبات. وعِظ بما تراءى لك من حكم من على منابر المعابد. فيحق لك الاستعانة بالآية 13 من سورة الحُجُرات مثلًا فتقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. وردِّد ما ورد في سفر طوبيا 3: 2 "عادِلٌ أنت أيها الرب وجميع أحكامك مستقيمة وطرقك كلها رحمة وحق وحكم".
لكن معايير التطبيق تختلف، وقواعد التفعيل تتراوح، وضوابط التنفيذ تظل قيد النفس البشرية وأسرارها، ونصوص القانون وقيودها. فبين نفس بشرية تميل إلى المحبة المطلقة والقبول دون حدود، وأخرى تربط محبتها بلون هذا ومعتقد ذاك، تتبدد عظات الأرض وبرامجها التلفزيونية ومناهجها التعليمية في هواء الأهواء. أما القانون فلا يعترف بهوى، ولا يميل إلى مشتهى، أو هكذا يفترض.
ويُفتَرَض في المجتمع الأميركي أنه مجتمع متعدد الأعراق والجنسيات والألوان والأديان واللاأديان، ويفترض فيه كذلك أن الجميع يحب ويتعايش ويتواءم مع الجميع. لكن الافتراضات مهما وثقتها الأفلام أو جمَّلتها الأقلام أو غرد عنها الرؤساء، لا تجعلها حقائق ووقائع.
واقعة ما جرى في "تشارلوتسفيل" من عنف بين "قوميين متشددين" ومعارضين لهم، أيقظت النائمين في يوتوبيا المثالية. فلا كل الأميركيين البيض يقبلون (أو فلنقل يحبون) النصوص الواردة في دستورهم حول المساواة في الحقوق والواجبات بين الجميع، ولا كل الأميركيين غير البيض ينعمون معنويًّا ونفسيًّا بما ورد في شأن المساواة. ولا كل الرؤساء الأميركيين يؤمنون إيمانًا كاملًا بمبدأ المساواة والقبول والتعددية. ومع ذلك تظل النصوص هي المرجعية الثابتة وقت الكوارث والأزمات والشدائد، ويظل القانون الضمان الأكيد لمعاقبة ما قد يصدر عن النفوس البشرية من انتهاكات وخروقات وتعديات.
"تعدِّي" الرئيس الأميركي دونالد ترامب على مشاعر كثيرين، بتعليقه على أحداث "تشارلوتسفيل" الذي حمَّل الطرفين المتواجهَين قدرًا واحدًا من المسؤولية عن العنف الذي جرى. لم يخص ترامب أنصار اليمين المتطرف، ولاحقًا تحدث عن "عنف من كل الجوانب". وبعد انتقادات حادة، خرج الرئيس الأميركي متحدثًا عن أن "العنصرية أمر سيِّئ"، و"هؤلاء الذين يمارسون العنف باسمها (العنصرية) هم مجرمون". لكنه عاد إلى ما في القلب مجددًا بعد أيام متحدثًا في مؤتمر صحافي عن أنه "كانت هناك مجموعة سيئة على أحد الجانبين، كما كانت هناك مجموعة شديدة العنف أيضًا على الجانب الآخر". وبقدر التعدي على مشاعر الكثيرين من جرَّاء "صراحة" ترامب وشفافيته في الحديث عن العنصرية، بقدر ما نزلت هذه الصراحة بردًا وسلامًا على آخرين أيضًا.
بردًا وسلامًا كذلك نزلت تغريدة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، تغريدة "رائعة" عن أنه "لا يولد أحد يكره شخصًا آخر بسبب لون بشرته أو خلفيته أو دينه. تَعلَّم الناس الكراهية. وإذا كان يمكنهم أن يتعلموا الكراهية، فيمكنهم أن يعلموا الحب، لأن الحب يأتي بشكل طبيعي إلى قلب الإنسان أكثر من العكس".
وعكس ما يعتقد بعضهم، فإن الأمر لو كان يقاس بشعبية التغريدات لانْصَلح حال الكوكب. فما جرى في "تشارلوتسفيل" ليس الأول ولن يكون الأخير. والاعتماد على مكنون النفس البشرية المتقبلة للآخرين والمتوائمة مع الجميع، هو اعتماد غير محمود العواقب، شأنه في ذلك شأن اعتبار مناهج التعليم الداعية إلى المساواة والمواطنة والمواءمة كافية، أو الخطب والمواعظ شافية، أو برامج التلفزيون عافية.
عافية المجتمع -أي مجتمع- لن تتحقق إلا بحزمة تتشابك وتتعايش وتتزامن فيها سبل التوعية والتقويم، جنبًا إلى جنب مع تَرْسانة قوانين تكفل المساواة وتُعاقب المعتدين مع ضمان التطبيق.
ومثلما ننتقد أميركا ونصبّ غضبنا على اليمين المتطرف، فعلينا مواجهة ما نحن غارقون فيه من يمين متطرف أيضًا. يميننا المتطرف يتأرجح بين جانب تنفيذي، كارهٍ لغير المسلمين كرهًا وصل حدَّ التفخيخ والتفجير والدهس والطعن، وجانب فكري وصل حد التكفير والعزل وتمنِّي الزوال أو التبخر في الهواء، وذلك أضعفُ الكره. ولنا في مجموعة "الخيل المُسوَّمة" ومهمتها الداعشية في دهس المدنيين في دول التحالف، وما جرى في برشلونة قبل أيام، عِبرة.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.