جملة تتكرَّر كثيرًا في أفلام الدِّراما المِصريَّة، يَصحبها -في الأغلب- مؤثِّرات صوتية حزينة، وأصوات بكاء وعويل. اعْتدنا كمشاهدين تفسيرَ هذه الجملة بأنها حُكم بالإعدام قاطِعُ النَّفاذ، وكأنَّ المُفْتي هو مَن يَحكم بالإعدام، وليس القضاء. وهنا، نطرح بعض الأسئلة التي تلتبس أجوبتها على المهتمِّين بالشأن الديني المِصريّ: ما طبيعة العلاقة المؤسَّسيّة بين دار الإفتاء ومشيخة الأزهر ووزارة العدل؟ ومَن يَحكم بالإعدام في مصر؟ وما دور المُفتي تحديدًا؟ ومتى يجري الرجوع إليه؟
دار الإفتاء تتمتع باستقلالية كبيرة عن وزارة العدل. وبحسب موقع دار الإفتاء، فقد استقلَّت الدار بالفعل ماليًّا وإداريًّا عن وزارة العدل بتاريخ 1-11-2007. ولكن، هذا لا ينفي التبعية السياسية الهيكلية، بِحُكم دَور دار الإفتاء مِن نظرٍ في قضايا الإعدام، بل ويؤكِّد أيضًا عدم وجود سُلطة لوزارة العدل على الدار، منذ عام ٢٠٠٧.
قبل عام ٢٠٠٧، كانت دار الإفتاء إحدى إدارات وزارة العدل، وتقُوم بالوظيفة الإفتائية حين يكمل العقيدة القضائية. فتُحيل محاكم الجنايات وُجوبًا، الجرائم التي تَرى بالإجماع إنزال عقوبة الإعدام بمرتكبها، قبل النطق بالحكم فيها، وذلك حسبما تَنصُّ عليه المادة (2/381) من قانون الإجراءات الجنائية المصري. ويَصِل عدد هذه القضايا إلى ٣٠٠ سنويًّا -بواقع ٢٥ قضية شهريًّا تقريبًا-. وتَمرُّ أوراق القضية بأربع مراحل: مرحلة الإحالة، ومرحلة التكييف، ثم التأصيل الشرعي، ثم إصدار الرأي الشرعي.
هنا، تَسترشد المحكمة برأي المُفتي، فيما هو في حاجة إلى الرجوع إلى رأي الفقه الإسلامي فيه، كشهادة الشهود، والإقرار، واليمين، والإنكار، وغيرها من الأمور الهامة جدًّا، لاكتمال "عقيدة القضاء". ونظريًّا، يَفحص المفتي أوراق المتَّهمين، ويقُوم بدراستها. فإنْ وجد فيها دليلًا شرعيًّا ينتهي حتمًا بالمتَّهم إلى الإعدام، أفتى في هذا الرأي وقدَّم أدلَّته، والعكس صحيح. أمَّا عمليًّا، فقد شُكِّلَت لجنة تتكوَّن من ثلاثة من المستشارين مِن رؤساء محاكم الاستئناف، لمعاونة فضيلة المفتي على تَفحُّص الأوراق، ثم يوقِّع المفتي -سواء بالقبول أو الرفض- على قرار المحكمة بالإعدام، في سرِّيّة تامَّة. وفي حالة عدم وصول المفتي إلى قرار في خلال ١٠ أيام، تَمضي المحكمة قُدمًا في تنفيذ الحكم. أمَّا في حال رفض المفتي حكم الإعدام، فمِن حقِّ المحكمة أن تَقضي بتنفيذ الحكم، أو ألَّا تَحكم بذلك حسبما ترى، مع العلم بأنَّ رأيَ المفتى في هذا الصدد، استشارِيٌّ غيْر مُلزِم للمحكمة.
على سبيل المثال: إجمالِيُّ عدد قضايا الإعدام، التى نظرَتْها دار الإفتاء خلال سنة ٢٠١٢، كان "٢١٠" قضايا. رفَض منها المفتي ٩ قضايا، وجرى تفويض المحكمة في ٣ أُخْرَى. وتتضمَّن هذه القضايا أعدادًا متفاوتة من المتَّهمين. ففي إحدى الحالات، وبِناءً على تقرير دار الإفتاء، تراجعَت المحكمة عن قرار إعدام ٤٩١ متَّهمًا، وقضَت فقط بإعدام ٣٧ متَّهمًا، قد أقرَّت دار الإفتاء شرعيّة إعدامهم. أمّا في حالات نادرة، فقد تُصدِّق دار الإفتاء حُكمَ الإعدام، وتتراجع المحكمة عن قرار الإعدام.
إذًا، يصبح عمل المفتي بالنسبة إلى أحكام الإعدام، هو عرضُ الواقعة والأدلَّة التي تحملها أوراق الدَّعوى، على أنواع الأدلّة وشروطها ومَعاييرها في الفقه الإسلامي. وهنا مَنشأ الاختلاف الذي يقع في بعض قضايا الإعدام، بين الفتوى والرأي الذي انتهَت إليه المحكمة، لأنَّ مُستقَى الدليل وضوابطه، يختلف اختلافًا واضحًا، فيما بين القوانين الوضعية المعمول بها في مصر، والفقه الإسلامي المستمَدّ من الأصول الأصلية للإسلام.
هيئة كبار العلماء بالأزهر، هي مَن تُرشِّح المفتي الجديد، حسب ما هو مُوضَّح في قانون تنظيم الأزهر الجديد عام ٢٠١٢. ومع ذلك، لا شأن للهيئة بقرارات أحكام الإعدام. فلا سلطة مباشرة لهيئة كبار العلماء أو مؤسَّسة الأزهر، على دار الإفتاء أو المفتي. ومع احترام القضاء لرأي فضيلة المفتي، كتعزيز احترام الفقه الإسلامي وقبول حكم الإعدام في معظم الأحيان مِن قِبل فضيلة المفتي، لاحترامه مسيرة القضاء المصري؛ ففي بعض الأحيان، لم يَقْبل المفتي أحكام الإعدام الصادرة من المحكمة، سواءٌ نفَّذَت المحكمة الحكم بالإعدام، أمْ تراجعَت عن القرار.
إذًا، فضيلة المفتي ودار الإفتاء، يتمتَّعان باستقلالية كبيرة، بصرف النظر عن موازين القوى السياسية. وطلَبُ رأي المفتي، واجبٌ على هيئة المحكمة في أحكام الإعدام، وإن كان غير مُلزِم. هنا يبقى السؤال: هل يكفل الاستقلال المؤسَّسي والماليّ، الحريَّةَ للمفتي في اتِّخاذ قرارات حياديَّة تمامًا في أحكام الإعدام، بِناءً على رأي الشريعة الإسلامية وحسْب؟
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.