اِستطاعت كرة القدم أن تحقِّق ما عجزَت عنه كثير من الخطابات الدينية، التي تروِّج لشيطنة الآخر ووجوب كراهيَته والبراءة منه. فقد حثَّت القيم الرياضية على احترام المنافس، واكتشاف جماليَّته، وتقدير ما لديه من إبداع وإنجاز. وعندما نرى في الفريق نفسِه شبابًا من ديانات وثقافات وأعراق مختلفة، يتعاونون ويتعانقون عند الفوز وتسجيل الأهداف، فإن هذا يؤكد أن كرة القدم قد نجحت في رسم مُنحنَيات جماليَّة للتعدُّديّة، أكثرَ إنسانيَّةً من تلك التي رسمها الغُلاةُ والطُّغاة المنتسبون إلى الأديان أو الأعراق.
لعلَّ جماليَّة سجود لاعب ليفربول المِصريّ محمد صلاح بعد إحرازه هدفًا أمام ملايين المشاهدين، ومِن قبْلِها قراءة الفاتحة للبطل العالميّ للملاكمة الأميركيّ محمد عليّ كلاي، كانت تلامس معنى المقدَّس الشَّعبَويّ، أكثرَ ممَّا يلامسه الخطاب الديني السائد في كثير من مجتمعاتنا المعاصرة. لقد استحوذ أبطال كرة القدم على مساحة واسعة من مِحراب القداسة، وأصبحوا رموز البانثيون (Pantheon) الجُدد في فضائيّاتنا وإعلامنا الحديث. وهذا ينبِّهنا إلى حركيَّة المقدَّس وتطوُّره بدايةً من تقديس مظاهر الطبيعة والأفلاك، ومرورًا بتقديس الكائنات الحيّة، وانتهاءً بتقديس الإنسان وعبادة الأبطال.
اِمتزج كثير من الطقوس والعقائد الدينية القديمة، بِشَغف البطولة وتمجيد القوة وعِشق الجمال، وهي مكوِّنات يمكن رؤيتها في المشهد الأوسع لبطولة كأس العالم لكرة القدم. فالتديُّن الشَّعبي لم يستطع الولوج في صورة الإله المجرَّد، بقَدرِ ما استطاع الإحساسَ بقداسة الأولياء والعظماء. فحُضور هؤلاء القِدِّيسين الجُدد العابرين للأديان والأعراق، يملأ مخيِّلة الشعوب بالأمل والرجاء، ويهَبُ نفوسَهم البسيطة السكينة والطُّمَأنينة، التي لا يجدونها في تصوُّرات غيبيَّة لكائنات بعيدة تتوارى عن عقولهم وحواسِّهم.
تعبِّر "وَحْدة الجمهور" في هُتافهم وفرحهم وغضبهم ونشوة انتصارهم، عن نوع من "الاتِّحاد الجوهري" في جسد الفريق الذي يحبُّونه. فعندما يستطيع اللاعب تسجيل الهدف بمهاراته وقدراته، بعد التغلُّب على الصعوبات والمُعيقات، فإنه يحقِّق النشوة الكبرى التي تمثِّل لحظة "النيرفانا الجماعية" (حالة متسامية لا يوجد فيها معاناة أو رغبة أو إحساس بالذات) والوِصال الروحيّ العِرفانيّ، التي كان المتصوِّفة والرهبان يبحثون عنها فُرادَى في خلواتهم، بعيدًا عن أعين الناس.
إن الشعور الذي يختبره عشَّاق الكرة، والمُراوِح بين الفرح والحزن والانتظار والرجاء والفخر، يضاهي في مضمونه العاطفيِّ ما يختبره المؤمن في مسيرة حياته الإيمانية من تناقضات، وما يستشعره العبَّاد في معابدهم وأديِرَتهم من مشاعر وانفعالات. أمَّا حالة الألم التي يشعر بها عشَّاق المستديرة عقب خسارة فريقهم، فلا تختلف عن حالة الشك التي يعيشها المؤمن عندما يَفقد إيمانه، أو حالة الضياع التي يستشعرها العاشق الذي فقد محبوبته.
إن جاذبيّة الحضور الجماهيري، ورمزيَّتَه المعبِّرة عن القوة والرغبة في تحقيق الانتصار، تُعيد صياغةَ صورة الواقع الصِّراعي، ورغبة الشعوب في الانعتاق من القهر والاحتلال، كذلك يُعيد شغفُ الانتصار ورمزيَّتُه، ذاكرة البطولة وقصائدها القديمة.
لقد استحوذَت كرة القدم على مساحة واسعة من الفراغ الفكري والروحي، الذي تركه غياب النماذج الإنسانية من الدِّين والسياسة، ولم تُفلح النظرة السطحيّة لدى بعض الدُّعاة، باعتبار كرة القدم مؤامرةً جهنَّميّة تقف وراءها جهاتٌ خفيّة، تهدف إلى إلهاء شباب المسلمين وتضليلهم. كذلك فشلت النظرة الأُحادية التي تضع كرة القدم كنقيضٍ وخصم للدين والإيمان، في إقناع الشباب بترك عشقهم لكرة القدم، بل أسهمت تلك الخطابات المأزومة، في تعميق الشعور الخاطئ بأن الدِّين يمثِّل نقيضًا للحياة، وعائقًا أمام الميولات الطبيعية للإنسان.
نعم، هناك استغلالان: سياسيّ واقتصاديّ، لكرة القدم وللرياضة على وجه العموم، خاصة وأن النوادي الكرويّة قد أصبح لها ثِقلٌ اجتماعيّ يفُوق في كثير من الأحيان نفوذ السياسيِّين من أتباع الأحزاب السياسية. وأمام ضعف الأُطر الحزبية والثقافية في مجتمعاتنا العربية، فإن الحشود الرياضية المجتمِعة في المُدرَّجات، تَغْدو الصيغة المُثلى للتعبير عن الشارع وانفعالاته، وعن اختلالاته وتناقضاته الاجتماعية.
من المعاني الأخيرة التي تتسلّل وراء النِّزالات الكرويّة العالمية، أن مهمَّة صناعة الأبطال هي مهمّة تتَّصل بأحلام الجماهير وآمالهم، وأيضًا تتَّصل في الوقت ذاته بجماليَّة الفروسيّة، وغضب الثورة، وفرحة الانتصار.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.