الميزة الكبيرة للإغراق في القبح هي أن الغارقين والغارقات لا يرون قبحهم. والحسنة الرهيبة في قِصَر النظر هي أن أصحابه وصاحباته لم يعاصروا يومًا طوله وامتداده. وامتداد أمد المفاخرة بأننا لسنا وحدنا الكارهين للآخر والرافضين للاختلاف، والمنددين بكل من وما لا يذعن لقوالبنا الثابتة وأنماطنا المتكررة، يعني أن النهاية قريبة.
قرب النهاية يعني أحد سيناريوهَين لا ثالث لهما. فإما أن ينفجر الكوكب بُغضًا لبعضه بعضًا ورفضًا للآخرين، أو تصل دورة القبح إلى أقصاها وتحين نهايتها لنستهلَّ دورة جديدة من دورات الإنسانية. وحيث إن المؤشرات المتاحة حتى اللحظة لا ترجِّح كفة على حساب أخرى، فلنترك علم الغيب لعالم الغيب والشهادة.
وأشهد أن في كل مرة أستيقظ على حادث دهس، أو أغفو على خبر إطلاق نار، أو أخلد إلى النوم على واقعة طعن أو تفخيخ أو تفجير أو تدمير، يداهمني كابوس رهيب أو يسعدني حلم لطيف. والكابوس هو أنّ بطل الواقعة يكون "محمدًا" أو "أحمد" أو "مصطفى" أو حتى "حازمًا" أو "تامرًا" أو "سالمًا". وأما الحلم فهو بطل من هناك حيث "ويليام" أو "فردريك" أو "لوكاس". وأشهد أن كوابيسي وأحلامي ليست حكرًا عليَّ أو قاصرة على أمثالي، بل تجول في خواطر ومنامات ملايين البشر.
الملايين -وربما البلايين- من المسلمين يتنفسون الصعداء ويتفاءلون بما هو قادم، ما أن يتضح أن أحدث جريمة هي من صنع "ويليام" وليس "محمد". أعداد مماثلة على الجبهة الأخرى تتعجب في الوقت نفسه حين يتضح أن الداهس "ويليام"، وأن مطلق النار "فردريك"، وأن الطاعن هو "لوكاس". فالطبيعي أن يكون "محمدًا"، أو "أحمد"، أو "مصطفى". هذه التوقعات والأمنيات على كلتا الجبهتين واضحة وضوح الشمس، وإن ظل بعضها مكتومًا أو مقموعًا أو حبيس الصدور من باب اللياقة ولزوم اللباقة.
لباقة المغرد العربي في درء تهمة الشماتة والدفع بتهمة السعادة، في أعقاب الإعلان عن اسم وهوية منفذ حادث الدهس في فيرجينيا الأميركية قبل أيام، لم تجدَّ في التمويه. "حزين للعنف في فيرجينيا، الدم كله حرام، وسعيد والحمد لله أن المجرم منهم فيهم". والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه بالطبع، إلا أن كون المجرم "منهم فيهم" أمرٌ لا يستوجب السعادة.
السعادة التي تغمر هذه الجبهة لدى تبرئة ذمتها من أعمال الكراهية والتعصب ورفض الآخر، هي في حد ذاتها رفض للتعددية والقبول. واجتياز مرحلة رفض العنف -بغض النظر عن جنسه أو هويته أو لونه أوعرقه أو طائفته- إلى مرحلة تفنيده وتسميته والفصل بين نوعيه الحميد والخبيث، هو خطوة نحو إعلان الكوكب منزوع التعددية.
نزع مشاعر الراحة والاطمئنان من داخل القلوب لدى نسَبِ العنف إلى الفريق المضاد أمر مستحيل. وفهم تنفس الصعداء حين يحرز الفريق المضاد هدفًا يرقيه في دوري رفض الآخر وكراهيته وقتله دهسًا أو طعنًا أو تفجيرًا أو تفخيخًا وارد. فالارتباط الذي صار شرطيًّا بين العنف والإسلام، أو بين رفض الآخر والمسلمين ولّد المزيد من العنف على كل الجبهات. والقفز إلى اعتبار كل دهس عملًا مسلمًا، وكل طعن جريمة عربية، وكل تفخيخ وتفجير وتدمير وكراهية سمة شرق أوسطية أجّج مشاعر الشماتة المتبادلة. فمنطقتنا صارت تسعد بجرائم اليمين المتطرف في الغرب. والغرب أصبح يقفز إلى إلصاق كل جريمة بالعرب والمسلمين. إنها بالوعة حقيقية.
بالوعة نبذ التعددية وكراهية الاختلاف، وجنون سموِّ نوع بعينه أو طائفة دون غيرها، تلتهم الكوكب. فمِن "داعش" ساحقة الاختلاف، إلى جماعات مزجت الدين بالسياسة وقامت على مبدأ الفوقية وقريناتها القائمة على مبدأ تفوق الجنس الأبيض، وهيمنة اليمين المتشدد ورفض التعددية التي تفتح الباب أمام الأنواع والأعراق والأجناس الأخرى "الدنيا"، يَسِير كوكبنا بخطى ثابتة إلى أحد السيناريوهَين المذكورين آنفًا.
وعليه، فإن تمثال الجنرال روبرت إي لي الذي قاد القوات الكونفدرالية أثناء الحرب الأهلية الأميركية في الفترة بين عامي 1861 إلى 1865، يقف اليوم في "تشارلوتسفيل" (فيرجينيا) سعيدًا منتشيًا. فحادث الدهس في فيرجيينا جرى ضمن مواجهات بين مسيرة لِيمينِيِّين قوميين بيض معترضين على قرار إزالة التمثال، وتظاهرة مضادة لليمين المتشدد. الجنرال الذي كان من أشد المؤيدين لاستمرار العبودية في أميركا، سعيد حتمًا بحال الكوكب، في انتظار الطرف الرابح في عملية دهس الآخر المقبلة.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.