طلب بعض القرّاء والمتابعين مني ألّا أكتب عن النساء، حتى أُثبت "حياديّتي ومِصداقيّتي". ولِكوني صحافية أنتمي إلى فئة تُصنَّف في خانة التعريف الشخصية: "أنثى"؛ يجعلني ذلك محلّ "ريبة" عند فئة معيَّنة من القرّاء، تعتقد أن الكتابة عن هموم النساء "انحيازًا نِسْويًّا". غيْر أن الكتابة عن هموم النساء، ليست شأنًا نِسويًّا على الإطلاق.
في هذا الأسبوع بالذات، مئاتُ الصحافيِّين حول العالم، تابعوا وكتبوا عن جريمة قتل وصِيفة ملكة جمال العراق السابقة "تارا فارس". جريمة تأتي في سياق سلسلة جرائم قتل منظَّمة، تستهدف شخصيات نسائية عراقية بارزة، في مجال جراحة التجميل أو الجماليّة بشكل عامّ. جريمة القتل هذه، علَّق عليها "إعلاميّ عراقي" بالقول: "عاهرة وانْكَتلت" (عاهرة قُتلت)، وكأنه يحرِّض على قتل فتيات أخريات. وقبل مقتل تارا، قُتلت ثلاث خبيرات تجميل في آب/أغسطس الماضي خلال أسبوع واحد، في ما يشبه حملة لِوَأْد صُنّاع الجَمال في العراق. عمليات قتل مدبَّرة، تستأصل من يحتفي بالحياة ويرتقي بالجسد، وسط حُمَم العنف والتفجيرات الانتحارية.
هذا القتل المنظَّم للنساء العاملات في مجال ذي صلة بالجماليّة، ليس الجريمة الوحيدة ضد النساء في العالم. فلقد تابَعْنا الأسبوع الماضي الجلسة التاريخية، التي عقَدها الكونغرس للاستماع لشهادة الباحثة "كريستين بلازي فورد"، التي اتَّهَمت القاضي "بريت كافانو" مرشَّح الرئيس دونالد ترامب للمحكمة العليا، بالاعتداء عليها جنسيًّا عام 1982. وقد سبَقت جلسةَ الاستماع تلك، حملةُ تضامن واسعة في أميركا وخارجها، شارك فيها رجال ونساء، باحُوا وبُحْنَ أوّل مرة بوقائع اغتصابهم أو اغتصابهنّ، في محاولة لكسر الصمت، بعد تشكيك الرئيس ترامب في مصداقيّة فورد.
قتلٌ منظَّم، تحرُّش، اغتصاب، ختان طفلات، تزويج قُصّر، زواج قَسْري، حرمان البناتِ التعليمَ، هضم حقوق العاملات المنزليّات، ظروف عمل قاسية للعاملات في المزارع، تمييز ضد النساء في الأجور حتى في المؤسسات الكبيرة ... هذه بعض الهموم التي تعانيها النساء في العالم، وهي جزء بسيط من يوميّاتهنّ. فهل علينا إهمال الكتابة عن هذا الواقع المرير، لِنُثبِت أننا "مُحايدون"؟
حين أكتب عن هذه الهموم، لا أقدّم هُويّتي النِّسويّة، بل الإنسانية والصحفية بالدرجة الأولى. فهل الكتابة عن فئة النساء، التي تكبَّدَت منذ قرون أصنافًا لا تُحصى من الظلم الاجتماعي والتمييز، تُعتَبر انحيازًا إلى النساء؟
حين أُذكِّر بضرورة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وإلغاء استعبادها من قِبل المجموعة أو الدولة، وحين أكتب عن الأغلال الثقيلة في معاصم النساء، التي تُكبِّلُهنّ وتَمنعهنّ عن التحليق؛ هل أنا منحازة إلى النساء؟
حين أكتب عن تلك السُّودانية التي أهدروا دمها، لأنها وقفت دون وَجَل أمام رجل دين، حَمّل النساء مسؤولية التحرُّش بهنَّ، لِتُفْهمَه أن المرأة حرّة في لباسها، وأن العادات هي المريضة وليست المرأة؛ هل أنا منحازة إلى النساء؟
حين تتوقَّف الكاميرا عند وجوه الكادحات في الحقول تحت الشمس الحارقة، وتوثّق عودتهنَّ محشورات كالخرفان في شاحنة نقل بضائع، ما يعرِّض حياتهنَّ للخطر؛ هل أنا منحازة إلى النساء؟
حين أتابع لُهاث سيِّدة في قاعات المحاكم، وهي تَطلب الطلاق من رجل غير سَوِيّ يعنِّفها، والقاضي يتلكَّأ في إنصافها، ويحاول في كلِّ مرّة إعادتها إلى الجحيم، الذي يسرق عمرها ويغتصب إنسانيّتها ويُذلُّها؛ هل أنا منحازة إلى النساء؟
حين نكتب –نحن النساء-، ونُعيد ونكرِّر وندعو ونناشد ونطالب، ونندِّد بالتحرُّش بالمرأة في الطريق العامّ وفي العمل وفي وسائل النقل، ثم نشرح ونصرخ: "هذه كرامة النساء، توقَّفوا عن إهدارها"؛ هل نحن منحازات إلى النساء؟
تاريخ اضطهاد المرأة طويل، والظلم الذي وقع ويقع عليها لم يتوقف، وما كنّا لنكتب عن كلِّ ما سبق لو توقَّف حقًّا. نكتب عن فئة مهضومة الحقوق، في ثقافات عديدة ومجتمعات مختلفة. النساء ما زلن يُشكِّلن أفقر الأشخاص في العالم. عدد النساء اللاتي يعِشْن في فقر في الريف، ارتفع بنسبة 50% منذ عام 1975، حسب اتِّفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW). ثُلثا ساعات العمل في العالَم تُزاولها النساء، لكنهنَّ مع ذلك يَحصلن على أجور أقلَّ بكثير من الرجال.
نعم، أنا منحازة. منحازة إلى هذه الفئة التي تقاوم، لِتُثبت أنها جديرة بالمساواة والعدل والاحترام. منحازة، لا لأَنِّي امرأة، بل لأن بقاء التمييز ضد النساء وتبريرَهُ والدفاع عنه، يَجرح إنسانيَّتي. زِد على ذلك، أن السكوت عنه يُسيء لِمِهنتي، مهنة الصحافة، التي من أولى تعريفاتها: البحث عن الحقيقة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.