يمثّل القَصص قِسمًا كبيرًا من القرآن الكريم، رُبعَ آياتِه تقريبًا، أي ما يُقدَّر بخمسة أضعاف آيات الأحكام. ومع ذلك، نَلحظ في الحضارة الإسلامية، أن الجانب الفقهي قد احتلَّ مساحة طاغية في الثقافتَين العالمة والشعبيّة على حدٍّ سَواء. فأصبح السؤال المركزي: هل هذا الفعل حلال أم حرام؟ وهو أمرٌ في حدِّ ذاته مفهوم. فالأسئلة العملية والأخلاقية تُواجهنا في شكل مواقف وقرارات، يتحتّم علينا اتِّخاذها يوميًّا. المشكلة هي المبالغة في هذا الأمر إلى درجة فقدان القدرة على الاختيار، فيصبح الإنسان عالةً على الفقهاء الذين يقرّرون مكانه؛ ما يشكّل نوعًا من الوصاية الدينية الخطيرة.
مِن حقّ الإنسان أن يستشير من يشاء من أهل العلم (من فقهاء وأطبَّاء ومهندسين...)، حسب طبيعة الموضوع. ولكن، بعد الاستشارة، وفي لحظة اتِّخاذ القرار، يعود المرء إلى ضميره ويختار حسب قناعته الشخصية، سواءٌ أَوافَقَت فَتْوى الفقِيه أم خالفَتْها. فلا يمكن أن نُلقي بمسؤولية الاختيار على عاتق غيرنا، ولا يُجدي يومَ الحساب أن نبرّر خياراتنا بالطاعة والاتِّباع، مِصداقًا للآية: {وقالُوا ربَّنا إنَّا أطعنَا سادتنَا وكُبراءنَا فأضلُّونا السَّبيلا} [الأحزاب: ٦٧]. وفي الحديث النبوي: "استَفتِ قَلبَك... وإِن أَفتَاكَ النَّاسُ وأَفتَوك". فالمسؤولية فرديَّةٌ أساسًا، ولا يمكن توكيلها.
اِستقلاليّة الضمير الإنساني جانِب أساسي من مفهوم الحرية الدينية، فمِن دُونه تتحوّل جموع المؤمنين إلى "قطيع" يُساق برضاه إلى حتفه. ومما يعقّد الأمور، امتداد الطاعة العمياء للرؤساء لتَشمل المجال السياسي والانتخابي؛ فتصبح "الفتوى" الانتخابية سلاحًا سياسيًّا لتغليب فئة معيَّنة بِاسم الدين. فمِن أبسط مبادئ الديمقراطيّةِ استقلاليَّةُ المواطن في اتِّخاذ قراره، بَعد النَّظر النَّقدي في البرامج والإنجازات. هذا الضمير المستقلُّ الناقد، مُحصَّن مِن تلاعُبات الأجهزة الدِّعائيّة للأحزاب واللُّوبيات والقوى الخفيّة، فلا يجرفه التيّار حيث لا يريد.
السؤال المطروح أمام تحدِّي التجديد الديني، هو: كيف ننتقل من الحلول الجزئية الترقيعيّة، إلى الرؤية الناظمة التي تجد فيها التفاصيلُ معناها؟ يتعلّق الأمر بالمنهج الذي يربِّي قلب المؤمن وعَينه. منهج لا يَمدّ المؤمنَ بالسمكة كلَّما شعر بالجوع، بل يعلّمه كيف يصطاد الأفكار ويُغَربلها، وكيف يُبدع في إيجاد الحلول على ضوء رؤية نقديّة فلسفية. الكينونة تُولّد الأفعال، والأفعال بلا كينونة واعيةٍ، تتحوّل إلى حبَّات عِقْد مبعثَرة، بلا حكمة جامعة تَتبيّن خارطةَ الطريق وأهدافها. المطلوب هو التحوّل من الكمّ إلى النوع، ومن الأتباع والرعيّة إلى المواطنين المسؤولين الواعين، الذين يقرّرون مصيرهم بعقولهم وأيديهم.
قال الله تعالى: {يكادُ البَرقُ يخطفُ أبصارَهُم كلَّما أضاءَ لهم مشوا فيهِ وإذا أظلَمَ عليهِم قامُوا ولو شاءَ اللَّـه لذهبَ بِسمعهمْ وأبصَارهم إنَّ اللَّـه على كلِّ شيءٍ قَديرٌ} [البقرة: 20]. تُقدّم هذه الآية صورةَ مَن يسير مِن دون رؤية شاملة؛ فتَكون خطواته في شكل قفزات متقطّعة في ومضات ظرفيّة. ما وراءَ ذلك، فهو الظلام الدامس الذي يلفّ المكان ويشلّ الحركة، بل النورُ نفسُه ممثَّلًا بالبرق، يَخطف الأبصار ولا يهديها؛ فباتت قنَواتُ المعرفة معطّلة.
هنا نعُود للقَصص القرآني كوسيلة تربوية تَصُوغ الشخصيّة. فالقصة ليست للتاريخ ولا للتسليَة، ولكن لتحويل الإنسان في جوهره قبل أفعاله. فعندما نقرأ قصة قرآنية، فَمِن حقِّنا أن نتساءل: كيف يمكن أن تتحوّل القصة إلى حياة وحركة؟ ما نصيبِي منها شخصيًّا؟ القصة ليست منفصلة عني، بل هي داخلي وفي حياتي، كصورة تدفعني إلى الحركة الجوهرية. القصة لا تُعطي تعاليمَ مباشرةً جاهزة للتطبيق، بل تجعل القارئ يتفاعل مع أجواءٍ وحالات يَستشِفُّ مَعناها، وهو معنًى قابلٌ أن يأخذ أشكالًا آنيَّة وجديدة في حياتنا. تحضر الصورة، ويُترك المفهوم لخيال القارئ حسب قدرته على تذوُّق المعنى.
لقد أبدع الصوفيّة، وجلال الدين الرومي خير مثال في تفسير القَصص القرآني. فمثلًا قصة مَخاض مريم وميلاد المسيح، تصبح عند الرومي قصَّتنا اليومية. فكلُّ واحد منَّا، إذا ما تَحلّى بنَفْسٍ بَتُول، يَحمل في داخله مسيحَهُ بالقوة، وما المخاض إلَّا الاختبارُ الذي يَدفع بذلك الإمكان إلى التحقُّق، فيتحوّل مخزون القداسة إلى حياة قدسية. فالدين ليس مجرّد قائمة من الواجبات والمحرَّمات، ولا بدّ لتلك الأحكام والأفعال أن تُغرس في مَنبت كريم، كما جاء في الحديث: "أَلَا وَإِنَّ في الجسَد مُضْغَةً إذا صَلَحَت صَلَح الجسَدُ كُلُّه، وإذا فَسَدَت فَسَد الجسَدُ كُلُّه، أَلَا وهي القَلْب".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.