لم يكن الحجاب من صنيعة الإسلام، فقد سبق ارتداء المرأة للحجاب قبل ظهور الإسلام بقرون طويلة. ويكفي هنا أن ننظر إلى صور السيدة مريم العذراء في الكنائس القديمة المنتشرة في أرجاء العالم القديم. كما تخبرنا بعض الشواهد الشعرية القديمة أن نساء العرب قبل الإسلام كن يلبسن الملابس الطويلة، كما جاء في معلّقة امْرِئ القيس:خرجتُ بها أمشِي تَجُرُّ وراءَنا على أثَرَيْنَا ذَيلَ مِرطٍ مُرَحَّلِ.
فالحجاب هو في الأساس عُرف إنساني قديم له ضروراته ووظيفته الاجتماعية، قبل أن يكون معيارًا لقياس درجة التدين أو تصاعد الاتجاهات الدينية! في كثير من الأحيان تغلبت الأهمية الثقافية والسياسية والاجتماعية للحجاب على أهميته الدينية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال ما تنطوي عليه مسألة الحجاب في وقتنا الراهن، من رفض للثقافة الغربية وسعي إلى الحد من تغلغلها في مجتمعاتنا العربية، وهذا في ظل غياب لأطروحة شاملة لمواجهة التبعية الثقافية والسياسية لتلك الثقافة المهيمنة. وهنا، وفي أجواء هذا الإحساس بالمواجهة الثقافية، يصبح أي تغيير في شكل المرأة، يُعدُّ تأثرًا بالثقافة الغربية، وتنازلًا عن القيم الأخلاقية برمَّتها!
وعلى المستوى الاجتماعي أدى التباين في مفهوم المساواة بين الرجل والمرأة في كثير من مجتمعاتنا العربية، إلى تقلص مساحة الخصوصية الفردية للمرأة، وذلك في مقابل اتساع الخيارات وتنوعها أمام الرجل. وهذا يؤكد أن مسألة الحجاب قد تعكس نوعًا من التمييز بين الرجل والمرأة، سواء في مسألة إجبارها على ارتدائه، أو حتى في إجبارها على خلعه.
كما قد نجد في الجانب النفسي لدى بعض الرجال، نوعًا من الانفعال البصري والسطحية الغريزية تجاه المرأة وما تلبسه، وهو أمر لا بد أن يؤخذ بالاعتبار في مسألة لباس المرأة. في القرآن الكريم جاء النص الأساسي في مسألة الحجاب في سورة الأحزاب، والتي نزلت في السنة الخامسة للهجرة أي بعد ثمانية عشر عامًا من بداية البعثة الإسلامية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 59]. وهذه الآية تؤكد أن طريقة لباس المرأة تهدف إلى إظهار هويتها وتعريف المجتمع بها، وهو الأمر الذي يُبعد عنها الأذى ويحقق الطمأنينة في المجتمع، وهذا يعني أن الحجاب ليس الهدف منه طمس هوية المرأة وتعطيل حركتها في المجتمع، بقدر توفير الأسباب التي تمكنها من ممارسة حياتها على أحسن وجه.
أما في النصوص المسيحية المقدسة، فنجد كلامًا مشابهًا لما في النصوص الإسلامية: "كَمَا أُرِيدُ أيضًا، أَن تَظهَرَ النِّساءُ بِمَظهرٍ لاَئقٍ مَحشُومِ اللِّباسِ، مُتَزَيِّناتٍ بِالحَياءِ وَالرَّزانَةِ، غَيرَ مُتَحَلِّيَاتٍ بِالْجَدَائِلِ وَالذَّهَبِ وَاللَّآلِئ وَالحُلَلِ الْغَالِيَةِ الثَّمَنِ، بَلْ بِمَا يَلِيقُ بِنِسَاءٍ يَعْتَرِفْنَ عَلَنًا بِأَنَّهُنَّ يَعِشْنَ فِي تَقْوَى اللهِ، بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ" (1 تيماوس 2: 9 – 10). وهذه التقوى التي أشارت إليها النصوص المسيحية المقدسة باعتبارها جوهر مسألة اللباس، هي التي يشير إليها القرآن في قوله: {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].
من المهم عند الحديث عن لباس المرأة من المنظور الديني، الأخذ بالاعتبار ثلاثة أمور وهي: حرية الفرد في اختيار اللباس الذي يريد، والإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع، والتعبير عن الإيمان. فلباس الإنسان يعكس ما في نفسه من معانٍ روحية، من شأنها أن ترتقي بطريقة التعبير عن الذات وتحقيق الطمأنينة النفسية. وفي جميع الأحوال يبقى من حق المرأة أن تتجمل، خاصة وأن التجمل يعكس حاجة عميقة في نفسها، لكن دون أن يصبح ذلك التجمل غاية أو غواية. فالجمال الأمثل هو لقاء بين جمال القلب والروح، وجمال المظهر والسلوك. أما الاقتصار على المظهر دون المخبر، فهو نوع من خداع الإنسان لنفسه قبل أن يكون خداعًا لغيره.
وختامًا نقول إن لباس المرأة يعكس التنوع الثقافي بأجمل معانيه، كما أنه حق للمرأة لا إكراه فيه، ما دام الدين في جوهره بعيدًا عن الإكراه، وأن العفة والطهارة ليستا بمقدار القماش الذي نضعه على أجسادنا، وإنما هُما بما نعيشه من معاني الإنسانية والتكافل والتراحم.
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.