كما الحال في كلِّ رمضان، يتجدد الجدل في تونس بشأن حرية الإفطار، وقيام شرطة البلدية في بعض الأحيان، بإغلاق مقاهٍ غير مرخَّص لها في فَتْح أبوابها في نهار رمضان، أو تجاوزات بعض أفراد الشرطة الذين هم في الزِّيِّ المدني، وتدخُّلهم في حريات المواطنين الشخصية، مثلما حدث في صفاقس (في جنوب البلاد) الأسبوع الماضي. فبينما كان أساتذة جامعيون يحتسون القهوة، في مقهى مرخَّص له في صفاقس في نهار رمضان، اقتحم المكان شرطي بزِيٍّ مدني، واقتادهم إلى نقطة أمنية. لكنَّ مدير تلك المنطقة، لم يتخذ أيَّ إجراء ضدهم، بل أعادهم بسيارة الدولة إلى المقهى، حسب شهادة أحد الأساتذة في تدوينة له.
لا يوجد في تونس نصٌّ قانوني، يعاقب المُجْهِرين بالإفطار في رمضان. لكن، يوجد منشور صدَر في ثمانينيّات القرن الماضي عن والي تونس، يَمنع فيه الإجهار بالإفطار وفتْحَ المقاهي والمطاعم للمفطرين.
بعض المقاهي والمطاعم مفتوحة في رمضان، ولها ترخيص في هذا، لكنها تلتزم وضْعَ ستائر على أبوابها، وتغطيةَ زجاج نوافذها -بأوراق صحف في بعض الأحيان- بشكل يمنع رؤية الزبائن، أثناء تناولهم المشروبات والمأكولات. ولا توجد في تونس شرطة دينية، لكن بعض الممارسات الأمنية تتعارض مع مدنية الدولة، ومبدأ حرية المعتقد والضمير المنصوص عليها في الدستور. فقبْل يومين، اعتدَت مجموعة من المتطرفين بعنف شديد، على نادل مقهى في ضواحي تونس كان مفتوحًا نهارًا، بحجَّة "انتهاك حُرمة رمضان". وهكذا، قرَّروا تطبيق أيديولوجيّتهم على الآخرين.
ربَّما آن الأوان لأن تتحلَّى الدولة بقدْر من الجرأة، وتُنْهي قضية المجاهرة بالإفطار نهائيًّا، وتُقِرَّ علنًا أن المجاهرة بالإفطار ليست جُنحة ولا جريمة؛ لِتَقطع الطريق أمام "الاجتهادات الفردية في جهاز الأمن"، ومَظاهر العنف تجاه المفطرين من قِبَل بعض المواطنين، ونزوات التطرّف التي تَظهر من حين إلى آخر. وعلى مؤسسات الدولة، التحرُّك فورًا لإنهاء الاعتداء على الحريات الفردية في رمضان، وفي أيِّ وقت، وعليها الحيلولة دون تحويل شهر رمضان، إلى فرص تتضاعف فيها التهديدات، التي تقوِّض حرية التعبير والديانة والرأي.
قبل سنة، في رمضان الماضي، كتبتُ في موقع "تعدُّدية" عن حملة "مِشْ بالسيف"، التي تدافع عن حقِّ المجاهرة بالإفطار. ويا للأسف، أُسيءَ فهمُ المقال. فأنا أُدافع عن الحريات الدينية كما الشخصية، وحرية اللامعتقد كذلك. واليوم، أدقُّ ناقوس الخطر. فالتعرض للمفطرين في نهار رمضان بالعنف والمطاردة الأمنية والتضييق، انتهاك ليس فقط لمدنية الدولة ولحرية المعتقد والضمير، بل انتهاك لضميرِي كمواطنة صائمة، لا يزعجها إفطار مُواطن، جاهر به أم أخفاه. فهذا حقُّه، والشارع للجميع، مفطرين وصائمين.
علينا التحلي بالشجاعة، للإقرار بأن لا سلطة للفرد على معتقدات الآخرين وسلوكهم، وبأن لا مكان في تونس اليوم للأساليب العدوانية الصارخة، التي تمارسها مجموعة تدَّعي أنها تذود عن الدين وعن الأخلاق، بحقِّ مجموعة أخرى، مهْما كان عددها.
اللافت أن تونس كانت تحتفي قبل أيام قليلة، باحتفالات موسم حج اليهود إلى كنيس الغريبة في جزيرة بجنوب تونس، الذي نُظِّم في رمضان هذا العام، وكان –برأي الدولة- "ناجحًا". هذه الدولة التي سوَّقَت صورة لها في الإعلام الدولي، على أنها ترعى حرية المعتقد والدين وتصُونه، وتجنِّد له الوحدات الأمنية لإنجاحه، كيف تَسلب في الوقت عينه حقَّ المفطرين في الإجهار بالإفطار؟ إنّ احتساء الحاجّ اليهودي في جزيرة "جربة"، خمرة البوخة في رمضان، هو تعبير مقدر عن الحرية الدينية صانته الدولة، فلماذا يُزعجها إفطار مجموعة في شارع في مدينة أخرى؟
الشُّحنة الفكرية والنفسية والذاتية، التي تقف خلف مطاردة نمَط عيش فئة ما في المجتمع، تَصُوغ سلوكًا عدائيًّا، يصادر الحريات الفردية، ويَنصِب نفسه راعيًا لأنموذج متخيَّل من السلوك المثالي. وعندما تتقَهْقَر الدولة في قضية المجاهرة بالإفطار، إمّا بمقاضاة مُفطر، أو بالسماح لشرطي بِبَسْط سلطته في مقهى مفتوح في رمضان؛ فكيف ستُقارع بعدها حجج المتطرفين، في جنوحهم نحو بسط تصوُّرهم لدولة دينية؟ وكيف تُعوِّل على تسويق بطاقة بريدية في الخارج، كلُّ ما فيها جميل، يتغنى بالتعايش والحريات ومدنية الدولة؟
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.