"أنا وأخي ضدُّ ابنِ العَمِّ، وأنا وابنُ العم ضد الغريب". ما زالت هذه القاعدة تستحوذ على ذهنية المجتمع الذي نعيش فيه، وتَحضُر بقوةٍ إمَّا نصًّا أو معنًى. فالحقيقة والحقُّ في نظر بعضهم، هما أمران ثانويَّان يسبقهما العصبية المجتمعية أو الانتماء الضيّق؛ مَا يضع سُورًا أمام التواصل والتفاعل بين الناس، ويحُول دون الوصول إلى التكامل الإنساني بين جميع البشر. فبُنْيَة هذه الثقافة تستدعي تسلسُلًا نمطيًّا وعُصبَويًّا تجاه من نتعامل معهم، حيث الأخ وأخوه ضد ابنِ العم في المرحلة الأولى، ثم الأخَوان مع ابن العم ضد الغريب في المرحلة الثانية، ثم قد يَظهر الغريبُ كخطأ مَحْض لا محلّ له في قالب هذه القاعدة.
ذات مرة سألتُ أحد أصدقائي، بعد أن بدَّل موقفه، من داعيةٍ إلى السلام، إلى منخرط مع أحد الأطراف اليمنية المتصارعة: "ما الذي غيَّر موقفك فجأة؟ هل كفرتَ بقيم السلام التي كنتَ تُلهم بها مجتمعك لفترة طويلة؟"، أجابني بعبارة تشبه العبارة السابقة: "كُن مع إخوتك مُخطئًا، ولا تكن وحدك مُصيبًا". لقد كان يجسد موقف قبيلته التي اتخذت هذا الموقف، وقرَّر اتِّباعَها بعد أن تخلّى عن عقلانيته، واتجه يرتدي عباءة العصبية الضيقة.
وعلى الرغم من أن هذه الثقافة ارتبطت بتاريخ الحروب والصراعات، التي سادت المجتمعات القبلية والعشائرية قديمًا، واستخدُمِت كتعبير عن تراتبية الهوية وتسَلسُل الولاءات في الكيانات المختلفة، إلا أنها تحوَّلَت في واقعنا الحالي إلى نمط حياة لدى الكثيرين، وعَبرَت مِن الفضاء الاجتماعي إلى الفضاء الثقافي والفكري والبنيوي، وصار المقبول من الرأي هو ما يأتي من الأشخاص الذين يشبهوننا؛ أمَّا ما يأتي من غيرهم فهو محلُّ شك وريب، بل ونقف أحيانًا بحزم وبعصبية مفرطة ضده، باعتباره خطرًا يسبِّب الفناء لأسوار قبيلتنا الثقافية.
إذن ما الذي يَخلق هذه الحالة من الانغلاق والتوجُّس، ويجعل من العصبية سلوكًا تُجابَهُ به المواقفُ والآراء الأخرى. هنا لا بد أن نشير إلى ماهية التعصب، إذ يُعتبر "حالة من التصلب الفكري أو الجمود العقائدي، حيث يُجسِّد اتجاهـات الفـرد أو الجماعة نحو جماعات أو طوائف أخرى. ويَكشف المتعصب عن خضوع كبير لسلطة الجماعة التي ينتمي إليها، مع نبذٍ للجماعات الأخرى. ويرتبط بذلك ميلٌ إلى رؤية العالم في إطار جامـد مـن الأبـيض إلى الأسود، مع ميول إلى استخدام العنف في التعامل مع الآخرين"، ويستند هذا السلوك إلى وجود جملة من الأحكام المقدَّمة، والصور النمطية السلبية عن الآخر، التي تسكن ذهنية الجماعات والأفراد.
إنَّ صُوَر التعصب وأشكاله تتعدد في حياتنا اليومية، ويتجلى ذلك في الآراء السياسية، والتوجهات الدينية، والأذواق الفنية، أو حتى في الاهتمامات الرياضية. وصِرنا نسمع ونشاهد هذه الصور والمواقف في العديد من المنابر الإعلامية، ومن شدة طغيان هذا الحضور صِرنا نتأثر دون أن نشعر. فماكينات التعصب بشتى أنواعها، تقوم بتشكيل قناعاتنا وطريقة تفكيرنا وسياقات تعامُلِنا مع الآخرين، دون إدراكٍ مِنّا. وهنا لا بد من القيام بعملية مراجعة مستمرة لمواقفنا اليومية، وطريقة نظرتنا وتعاملنا مع المعلومات التي تتدفق من حولنا. فلا يكفي أن نتحدث بِآفة التعصب نظريًّا، بل الأهم أن نطوِّر آليَّةً شخصية لمواجهة هذه الظاهرة، بصورة عملية تَحُول دون وقوعنا في وحلها.
إن أكبر عقاب يحدث للمتعصب هو الحرمان. فموقفه الدفاعي عادة ما يجعله يسلك المنحى التبريري لقناعاته المقدَّمة، في حين يقوم في الوقت ذاتِه بحرمان نفسِه اكتشافَ معرفةٍ جديدة، أو تَوجُّهٍ مختلف، أو رأي سديد، ربما يُثري حياته بشكل أفضل، أو على الأقل يجعله يتفاعل مع الآخرين بطريقة إيجابية، تقودهم إلى اكتشاف ما لديه.
وهنا نتساءل عن مواقفنا التي نَبْني عليها قراراتنا اليومية: ماذا لو كان ابن عمي على صواب، حين وقفتُ ضده بدعوى مناصرة أخي؟ ثم ماذا إن كان الغريب على حقّ، حين ناديتُ أبناء العمومة للتصدي له؟ وكم من الوقت والجهد يجب أن نخسر، حتى نقتنع بأن الحقيقة أكبر من الانتماء، وبأنها تَسْري في وديان البشر جميعًا دون سؤالهم عن أشكالهم وألوانهم، فتَكُون الحقيقةُ بذلك ضالَّةَ الإنسان، ومحور بحثه، وبوصلة مواقفه؟!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.