العالَم ليس منقسمًا بحِدّة بين أسود وأبيض، فهناك منطقة رمادية واسعة تجمع التقليديَّ الناقد، والسلفيَّ المُسالم، والتقدميَّ الملتزم شعائرَ دينه... فكم من ليبرالي تراه في حياته الخاصة ذُكوريًّا متسلّطًا، عكسَ شعاراته وخطاباته! وكم من شيخ يختلس الحرام في الظلام! يبدو أن الإنسان غير قابل للتعريف، حتى ولو عرّف نفسَه، وعرّفه الناسُ. فكلّ إنسان يمثّل حالةً خاصة، تخترع فرادتها رغم العناوين واللافتات. الله تعالى برحمته وعدله يتعامل معنا كأفراد، فعلينا أن نقتدي بسُنَّة الله في التعامل مع الناس كأفراد، وليس كجماعات أو قطعان. مشكلتنا في نهاية المطاف مع أنفسنا، قبل أن تكون مع الآخر. ففي نفس كل واحد منا زوايا مظلمة، إن لم نُلقِ عليها أضواء الوعي، فإنها ستكبر لتصير وحشًا مفترسًا. فلنَقتُل الديكتاتور الذي في داخلنا، قبل أن يُولَد من أرحام أنانيَّاتنا ديكتاتوريُّو المستقبل.
كم مِنَّا مَن بدأ سلفيًّا وانتهى حَداثيًّا! وكم منَّا من كان يساريًّا في شبابه، ثم تحوّل إلى مؤمن محافظ في كهولته! وكم من شخص كان يكفر بالحوار، أصبح من أنشط العاملين به! وكم من مُحاوِر ناشط تنكّر لماضيه وأصبح يفضّل السير في صراطه وحيدًا! بل داخلَ العائلة الواحدة، نجد الشيخ التقليدي يُنجب الماركسيَّ الثوري، والليبرالية المتحرّرة تصطدم بابنتها المتحجّبة!
قد نعتبر أنفسنا منفتحين، فنكتشف من هو أكثر انفتاحًا منَّا يقف على يسارنا، فنصبح فجأةً من أصحاب اليمين، ونكتشف ذلك "السلَفي" القابع في قرارة نفوسنا، الذي ينبّهنا على أن للانفتاح خطوطًا حُمرًا لا يمكن تجاوزها، وكأنّ نفوسنا تحمل روحَين توأمَين: محافِظة ومتمرِّدة، أو ناقدة وراضية. قُوى الحياةِ تتصارع فينا وحولنا حينًا، وتتصالح حينًا آخر.
يعلّمني صديقي السلَفي ألَّا أكره أحدًا، ولو كان من الكارهين الغاضبين. فمَن ملأت قلبَه المحبةُ، فليس لديه وقت للكراهية، فهي سُوسٌ يَنخر الروح، ويميت الفؤاد. والفكر المبني على الكراهية، كالذي يُبنى على المصالح والمطامع، لَهُوَ أقرب إلى الأيديولوجيا منه إلى الدين. لاهوتُ الكراهية لاهوتٌ "لا دينيٌّ"، بل مضادٌّ للدين، حتى لو كان باسم الله أو الدين. فالوظيفة الدينية للدين، هي تطهير الإنسان من عوائق الأنانية ومفاسدها، حتى تنقشع الغشاوة، فيرى الآخرَ القريب والآخر المطلق. هذه الوظيفة التأسيسية للدين كثيرًا ما تضيع في زحمة المشاريع الزائفة، من رِبحيّةٍ ومصلحية وطائفية ومافيوية... وهذه هي مأساة التدين اليوم، أنه يَضيع في متاهات لا علاقة له بها، ويُضيّع وظيفته الأساسية، وهي تربوية بالأساس، أي إعداد الإنسان للانفتاح على الله، وعلى الناس والكون. يُفترض في الدين أن يُعِين الإنسان على تحقيق إنسانيته، لا أن ينفخ في أوداج العصبيات والأنانيات.
يعلّمني صديقي السلَفي أنّ إقصاءَ الإقصائيين إقصاءٌ بغيضٌ، ولو كان باسم الحرية أو التعددية، وأنّ التعددية الحقّة هي التي تضمّ الإقصائيين، ما دمنا سواسية تحت سقف القانون، وضوابط السِّلم الأهلية. ولا يُشترط في بناء الديمقراطية أن يكون الجميع تعدُّديين، فديمقراطية النوادي قاصرة ومنقوصة. المشكلة ليست في الإقصاء الفكري في حدّ ذاته، بل في تَحوّله إلى عنف باسم الله، أو باسم الوطن. ولكن، حتى مَن تَورّط في العنف يمكن أن يتوب ويتغيّر ويصبح عنصرًا إيجابيًّا، ويصبح ماضيه العنيفُ خبرةً إضافية، تسمح له بمواجهة التطرّف بجدِّيةٍ أكبر، وحكمةٍ أعمق. الإرهابيون، رغم انحرافهم وإجرامهم، هم أبناؤنا وإخواننا. من السهل أن نلومهم، ولكن هل قمنا بما يجب حتى نَحول دون مصيرهم المشؤوم؟! مَن لا يجد الماء الصافي، يشرب الماء العكر ليروي عطشه. فهل وفّرنا لهم الماء الزُّلال؟! تقصيرنا يجعلنا شركاء في الجريمة. أهلُ الحوار فَرحُون بنواديهم النخبوية المغلقة، رامُون بِوِزرهم على كاهل الإقصائيين والإرهابيين، فهل فكّروا يومًا في توسيع دوائر عملهم التربوي والحواري، ليَصل الجماهير العطشى إلى المعنى والإنسانية، فاتحين أفقًا يبشِّر بغدٍ أفضل، يكون فيه الخير ممكنًا، والعدل ممكنًا، والرحمة حقيقةً لا سرابًا؟ عندها فقط، سوف نرى الوجوه المكفهرّة تبتسم، والأكفّ المقبوضة تنبسط، والقلوب القاحلة تهتزُّ لغِياثٍ لاحت نسائمه.
صبري على أخي السَّلَفي هو صبري على نفسي، واكتشافٌ لعيوبي، ودواءٌ لعلَّاتي. فرَحِمَ الله امرأً أهدى إليّ عيوبي! فمتى تصالحتُ مع نفسي، تصالحتُ مع الخلق، ومتى خرجنا من منطقَي "كبش الفداء" و"المؤامرة"، فإننا سوف نتحمّل مسؤوليتنا، ونبلغ رشدنا.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.